د.أسامة أحمد عثمان
من أسوأ ما يمكن أن يتعرض له الإنسان أن يحمل كلامه أو فعله على غير مراده. فقد ثارت في نهاية شهر يونيو الماضي ضجة شديدة في وسائل الإعلام المحلية ووسائل التواصل الاجتماعي حول مقابلة تلفزيونية لأحد كبار المسؤولين في مؤسسة التأمينات الاجتماعية تحدث فيها عن المؤسسة والأعباء التي تواجهها في الوقت الحاضر وما يمكن أن تواجهه في المستقبل من أعباء متزايدة نتيجة التقاعد المبكر للعاملين مع ارتفاع معدل عمر الإنسان في المملكة. وقد فسر كلامه من قبل كثيرين وكأنه يتمنى الشر للناس! بادئ ذي بدء مقالي هذا ليس دفاعاً عن ذلك المسؤول، فأنا لا أعرفه لا بل لم أسمع به قبل هذه «الهوشة». لا بل إن مقالي ليس دفاعاً عن مؤسسة التأمينات، وإنما هو دفاع عن مصلحة البلاد كما يقتضيه المنطق العلمي.
مؤسسة التأمينات الاجتماعية جزء من رأسمال وطني عام ونجاحها في مهمتها جزء من أمننا الاجتماعي، لا بل الوطني أيضاً. ولذلك فإن النقاش حولها وحول غيرها من المؤسسات الوطنية لا بد أن يكون على درجة عالية من العقلانية. فالأمر لا يتعلق بمعاش هذا الجيل وحسب، وإنما يمتد إلى جيل الأبناء والأحفاد إلى ما شاء الله. في الخمسينيات الميلادية من القرن الماضي كان متوسط عمر الإنسان في المملكة ثلاثاً وخمسين سنة. وكانت نسبة وفيات الأطفال دون الخامسة ثاني أعلى نسبة في العالم العربي، بعد اليمن الشقيق فقط. أما الآن فإن متوسط عمر الإنسان في بلادنا يبلغ السابعة والسبعين! حدث هذا بفضل الله عزوجل أولاً ثم بفضل ارتفاع دخل البلاد عبر السنين والذي مكن الدولة من الصرف السخي على مجالي الصحة والتعليم. كما كان ذلك بفضل السياسة الحازمة لوزارة الصحة بعدم إعطاء والدي المواليد الجدد شهادة الميلاد الأصلية إلا بعد أن يستكمل الأطفال التطعيمات الأساسية. وبفضل هذه السياسة انخفض معدل الوفيات بين الأطفال في المملكة انخفاضاً شديداً حتى أصبح من أقل المعدلات في العالم العربي. وارتفع بالتالي معدل عمر الإنسان في هذه البلاد حتى وصل إلى ما هو عليه الآن. وإذا كان كل رأسمال يحتاج إلى فكر خلاق كي يؤتي ثماره، فقد أثبتت هذه السياسة أن الفكر الخلاق لا يحتاج دائماً لرأسمال كي ينجح وإنما يحتاج إلى عزم وحزم. ترى هل سيجري ترشيح صاحب هذه الفكرة لجائزة نوبل للسلام؟! هل أسمع كلمة «إن شاء الله»؟
هذا التحسن الكبير في صحة المجتمع وارتفاع معدل عمر الإنسان يفرض على مؤسسة التأمينات مسؤوليات متزايدة للوفاء بتأمين شيخوخة أعداد متزايدة من السكان. ولذلك فإن جميع سياسات المؤسسة التي تتعلق بنسب الاشتراكات وسن التقاعد والسياسات الاستثمارية للمؤسسة يجب أن تخضع لمراجعة مستمرة ونقاش وطني عام حولها، ولا بد من حدوث ذلك تحت قبة مجلس الشورى. مشكلة العجز في موارد التأمينات الاجتماعية موجودة في كثير من الدول، وتختلف الإجراءات طبعا للأوضاع الاقتصادية العامة للدول ومنها وضع مؤسسات التأمينات. فمثلا رفع سن التقاعد النظامي في الولايات المتحدة منذ عام 2000 وبمقدار شهرين كل عام، وسيصل إلى سن السابعة والستين عام 2022! إن سياسة التقاعد المبكر (جدا) تتناقض مع المقصود الأصلي لفكرة التأمينات الاجتماعية. فالمقصود من التأمينات الاجتماعية هو توفير معاش للعامل في شيخوخته، وعندما تضعف قدرته على الكسب. فهل شاخ من بلغ الأربعينات من عمره؟! التقاعد المبكر يشكل ضغطاً على مؤسسات التأمينات الاجتماعية من جهتين، فهي تخصم من إيرادات تلك المؤسسات وتزيد من مصروفاتها في آن واحد. تفيد إحصائيات التقرير السنوي لمؤسسة التأمينات الاجتماعية لعام 2019 أن نسبة المتقاعدين مبكراً إلى مجموع المتقاعدين زادت على 50 في المائة في كل عام خلال الفترة 2015 - 2019! ويفيد نفس التقرير أن منافع المتقاعدين بشكل مبكر زادت على 70 من مجموع منافع المتقاعدين في كل عام من نفس الفترة!! ويلاحظ هنا أن هذه الإحصائيات كانت قبل دمج المؤسسة العامة للتقاعد في مؤسسة التأمينات في يونيو 2021. وليس من المستبعد أن تكون الصورة في القطاع الحكومي مشابهة لما هي عليه في القطاع الخاص. ومن المعروف أن مجتمعات الدول النامية، ومنهم المملكة، تتميز بتركيبة سكانية شابة. وهذا يعني أن من المفروض أن عدد الداخلين إلى أسواق العمل هم أكثر من الخارجين منها بالتقاعد أو الوفاة. وهذا يعني أن إيرادات صناديق التأمينات يجب أن تكون أكثر من مصروفاتها، مع مراعاة العوامل الأخرى وخاصة نسب الاشتراكات. هذه الميزة الاقتصادية المهمة جدا جدا يمكن أن تضعف كلما كانت سياسة التقاعد المبكر أكثر تساهلاً. وقد أورد موقع بلومبيرج مقالا ذكر فيه أن العجز المتوقع في صندوق التأمينات الاجتماعية السعودي يمكن أن يصل إلى 800 مليار ريال، إلا أنه لم يوضح المدى الزمني الذي يمكن أن يحدث فيه ذلك، لا سمحالله!
ولذلك فإن إعادة النظر في سياسة التقاعد المبكر والمنافع المترتبة عليه، أمر لا مفر منه. إذا افترضنا أن الحد الأدنى من سنوات الخدمة لتقاعد مبكر هي عشرون سنة وإن منافع التقاعد النظامي تكون كاملة بعد خدمة أربعين سنة، فإن هذا يعني أن المتقاعد مبكراً يخسر نسبة ثابتة تساوي 2.5 في المائة من الحد الأقصى لدخله التقاعدي. وإذا أردنا أن نضعف الحافز للتقاعد المبكر، فإن هذه النسبة يجب أن تتزايد طرداً مع قصر فترة الخدمة.
توصف أنظمة التأمينات المعمول بها في كثير من الدول، ومنها المملكة، بنظام «ادفع وأنت ماش. Pay as you go» أي أن ما يدفعه العامل ورب العمل إلى التأمينات لا يوضع في حساب باسم العامل، وإنما يصب في صندوق عام للمشتركين. وما يدفعه العامل ورب العمل إنما يستخدم لدفع المستحقات التقاعدية للذين عملوا من قبل ثم تقاعدوا. فإذا تقاعد العامل كان ما يستلمه من معاش تقاعدي ممولا من هم لا يزالون على رأس العمل. أي أنه نظام تكافل بين الأجيال. ولذلك فإنه عند النقاش حول هذا الموضوع لا بد أن نتذكر أن علينا مسؤولية تجاه الأبناء والأحفاد. على أنه يمكن لكل جيل أن يساعد نفسه أيضاً إذا أدخل في النظام ما يسمح للعاملين بطلب زيادة ما يقتطع من رواتبهم وبشكل اختياري. على أن توضع هذه الزيادة في حساب توفير خاص باسم العامل. وعلى أن تؤول تلك الإضافة وما ينتج عنها من دخل إلى العامل بعينه عند تقاعده وإلى ورثته من بعده بغض النظر عن أعمارهم أو زواجهم من عدمه.
من عيوب النظام الحالي عندنا أن المعاش التقاعدي لنسبة لا يستهان بها من المتقاعدين لا يكفي لتلبية حاجاتهم الأساسية. معاشات التقاعد ثابتة جامدة ولكن تكاليف المعيشة متصاعدة. والذي أراه أن تدرس فكرة ربط المعاش التقاعدي بمؤشر تكلفة المعيشة. هذه واحدة. كما أرى أن تدرس فكرة إعادة شيء من الضرائب التي يدفعها المتقاعدون إليهم. أو أن يجري إعفاء المتقاعدين، وخصوصاً ذوي المعاشات الدنيا، من بعض الرسوم والضرائب. وميزة هذه الطريقة في مساعدة المتقاعدين أن المنفعة تؤول إلى كل متقاعد بعينه وفي حدود ما أنفق وحدود ما دفع من ضرائب. ولكن يعيبها أنها ربما تحتاج إلى بنية تحتية إدارية قد تأخذ بعض الوقت حتى تؤدي عملها. وهناك خيار ثالث وهو أن ترفد وزارة المالية التأمينات الاجتماعية بنسبة معينة من إيرادات الضرائب. وميزة هذا الخيار أنه لا يكاد يحتاج إلى بنية إدارية جديدة ويمكن تنفيذه فوراً. ولكن عيبه أن منفعته تعم ولا تخص.
هناك الكثير مما ينبغي إعادة النظر فيه في نظام التأمينات الاجتماعية، نبهت إلى بعضه «الهوشة» التي حدثت. وكما يقول المثل «رب هوشة نافعة»!