اللواء الركن م. سلامة بن هذال بن سعيدان
من المعروف أن السلطة تمثِّل حق فرض الإرادة، وما يعنيه ذلك من حق القيادة في اتخاذ القرارات وإعطاء الأوامر في سبيل خدمة المصلحة العامة، وسلطة القائد يستمدها من السلطة العليا التي تستمد سلطتها من الشعب، مما يتطلب من القائد أن يعمل من أجل مصلحة العمل ومصلحة مرؤوسيه لكي يجعل السلطة مهابة ومقدسة، حيث إن المصلحة العامة تحدد حدود سلطة القائد وتمنحه المسؤولية لإعطاء السلطة مفهومها الأصلي ووضعها في مكانها الصحيح، الأمر الذي يعطيه القوة التي تنعكس على قيادته وترفع من شأنه، وقد قال أفلاطون: المقياس الحقيقي للقائد هو كيف يتصرَّف في السلطة.
وتتألف القيادة من مجموعة من العوامل المتفاعلة والمفاهيم المتداخلة التي ينتج عن تفاعلها وتداخلها ما يُعرف بالمنظومة القيادية التي تشكِّل بدورها المحور الذي تتمحور حوله الأحداث والممارسات القيادية التي يغلب عليها الطابع التأثيري بالنسبة للقائد، ومهما تباينت المفاهيم وتنوَّعت الأساليب فإنها تلتقي حول شخصية القائد وتأثيره في الأتباع الذين يجدون في شخصيته من دلائل القيادة ومخايل السيادة ما هو كفيل باتباعه وتقليده.
ومن هذا المنطلق فإن القيادة تمثِّل في أبعد أبعادها قدرة القائد على التأثير في سلوك شريحة من الناس لاتباعه والاقتداء به بفضل ما يتمتع به من الإحساس القيادي والشعور بالمسؤولية اللذين يدفعانه إلى بذل كل ما بوسعه في خدمة الجهة التي منحته حق القيادة وخدمة الأتباع الذين جعلوا منه قدوة ورضوا بالتضحية تحت قيادته وذلك من أجل إنجاز المهام وتحقيق الأهداف، وقد قيل: أول خطوة نحو القيادة هي الخدمة.
والقيادة عبر تسلسلها تأتي من الأعلى إلى الأدنى بالنسبة لجميع المستويات والأنساق على نحو يكون معه كل قائد مرؤوس يعتبر قائداً بالنسبة إلى من دونه في سلسلة القيادة، مما يساعد القائد الأعلى على تنفيذ مهمته، ويفسح المجال أمامه للموازنة المطلوبة بين متطلبات المركزية ودواعي اللا مركزية، كما يوفر ذلك للقادة المرؤوسين عناصر لإصدار أوامر جديدة، بوصف شاغل المنصب القيادي مهما كان موقعه في سلسلة القيادة لا يتعامل مع كتلة من المنفذين، بل يتعامل مع عدد من القادة الذين يتبعونه في تسلسل من المراجع على شكل هرمي.
والقائد يختلف عن الرئيس والمدير اختلافاً واضحاً لا تخطيه العين نظراً لأنه يتعامل عن قرب مع المنفذين ويؤثِّر فيهم من خلال الاحتكاك والمراقبة ومشاركتهم الآمال والآلام في حين أن الرئيس يعتمد على السلطة والسيطرة التي أوجدها له النظام الرسمي لدفع المرؤوسين لعمل ما هو مطلوب منهم بقوة النظام دون أن يكون له احتكاك مؤثِّر أو حضور يذكر، كما أن المدير يدير عمله بشكل غير مباشر معتمداً أكثر على المساعدين والمستشارين الذين يحجبون عنه من دونه إلى الحد الذي يتيح لهم القيام بعمله والعبث تحت مظلته، وكل قائد رئيس أو مدير وليس العكس.
ومفهوم المدير مأخوذ من الإدارة وجميع ما يرتبط بها، وهي تختص بإدارة الوسائل بصرف النظر عن المجال الذي تُدار فيه هذه الوسائل، وهذا المفهوم يختلف عن مفهوم القائد بالنسبة لأسلوب التفكير وممارسة المسؤولية، رغم أن المفهومين قد يجتمعان في شخصية واحدة، فالمدير يستند إلى قوة إجراءاته ويبحث عن السلطة والقائد يعتمد على قوة أتباعه ويسعى إلى النفوذ، منطلقاً من الصفات والسمات التي يختص بها وحسه القيادي الذي يتميز به على غيره، وقد قال أحد الفلاسفة: المدير يتبع الأثر، ولكن القائد هو من يصنع الأثر، وقال أحد الخبراء: الإدارة هي الكفاءة في تسلّق سلم النجاح، والقيادة هي التي تقرّر هل كان السلم يتكئ على الجدار الصحيح؟
وهذا الحس القيادي عندما تتم تنميته وتطويره وزيادة فاعليته يتحول إلى شخصية قيادية تجمع بين قوة التأثير وحسن التدبير، بحيث تتمثَّل هذه الشخصية في القائد الذي يستحق أن يكون رمزاً للوحدة والسلطة، معمماً الانضباط عن رغبة لا عن رهبة، ومهتماً بالمصلحة العامة ومحافظاً على تماسك القيادة وتوحيد صف المقودين.
وممارسة فن القيادة تزداد وتيرته ويبلغ ذروته في المستويات الدنيا التي تُتاح فيها الفرصة للقائد للتعرّف على المرؤوسين والغوص في أعماقهم من خلال العمل القيادي الذي تفرض فيه المركزية نفسها كواقع طبيعي لصغر حجم الوحدة وتجسيد القدوة الصالحة وممارسة القيادة الناجحة.
وكلما ارتفع مستوى القيادة وزاد عدد المرؤوسين حلت النظرة الجماعية محل النظرة الفردية، وبرزت دواعي اللا مركزية نتيجة لتسخير القائد جزءاً من وقته لإدارة الوسائل والأعمال الإدارية الأمر الذي يستدعي المزاوجة حيناً والموازنة أحياناً بين لزوميات المركزية ودواعي اللا مركزية.
والواقع أن لكل قائد مرؤوس مكانه في سلسلة القيادة وفقاً لطبيعة عمله واختصاصه، والقائد المسؤول عن الجميع هو المختص بطرح الأفكار العامة والموضوعات المهمة التي تُشغل الآخرين، انطلاقاً من موقعه في السلطة ومسؤوليته القيادية، مستخدماً تفكيره وبعد نظره، وواضعاً الخطوط العريضة التي يسيطر من خلالها على الموقف بما في ذلك إيجاد الحلول للمعضلات التي يتعذّر على الآخرين حلُّها، مع ترك دقائق الأمور والتفصيلات الثانوية للقادة المرؤوسين الذين يتولون معالجة الجزئيات الواقعة ضمن دائرة مسؤوليتهم والمخوّل لهم معالجتها والتعامل معها.
والقائد المطبوع يعرف أدق الفروق بين لزوميات المركزية ودواعي اللا مركزية، موفقاً بين الحالتين، ومتخذاً من الأولى طريقاً إلى الثانية عن طريق الاستفادة من الإيجابيات وتحييد السلبيات بالشكل الذي يجعله يكون مركزياً في قراراته وأوامره، وما يمليه عليه منصبه وطبيعة عمله دون أن يتنازل عن شيء من ذلك أو يترك المساعدين والمستشارين يتدخلون في عمله أو يحجبون عنه المرؤوسين، وفي الوقت نفسه يكون لا مركزياً بتوزيع الأعمال على المساعدين ومراقبتهم وتوجيههم وتدريبهم على اتخاذ قرارات مشابهه لقراراته والاستجابة لتوجيهاته والتصرّف بصورة تنسجم مع تصرفاته وتخدم تطلعاته مع احترام مواهب المساعدين وإمكاناتهم في حدود ما هو مطلوب منهم وعدم التدخل في عملهم بدون مبرر.
والمركزية لها قيودها وحدودها، وكذلك اللا مركزية والقائد الملهم هو الذي يعرف الحدود الفاصلة بين الأمور التي تتطلب إحكام قبضته عليها وتركيزها في يده، وتلك التي يمكن التعامل معها بمرونة مقيدة تحت إشرافه وبعلمه تبعاً لحجم المنظمة أو الوحدة وطبيعة عملها كما يعرف مدى الحاجة إلى هذه وتلك دونما إفراط أو تفريط، وحسن اختيار المساعدين والمستشارين ووضع الرجل المناسب في المكان المناسب يساعد القائد في إنجاز مهمته والنجاح في عمله.
وحلقة المستشارين المحيطة بالقائد ذات تأثير مباشر عليه، الأمر الذي يتطلب منه أن يهتم بعملية اختيار المستشارين ليجعل من هذه الحلقة التي يطوّق بها نفسه سبيلاً إلى النجاح وليس مدعاة للفشل، مراعياً الربط بين الكفاءة والتخصص وبين الولاء والإخلاص، ليضمن سلامة المصدر الذي يزوِّده بالأفكار المتجدِّدة والمعلومات، ويساعده في التوسع في الخيارات، وبالتالي يضمن سلامة المرآة التي تعكس شخصيته وتكشف للآخرين جانباً من صفاته وسيرته. وقد قال أحد فلاسفة اليونان: إن نوعية الرجال الذين حول القائد وليس عددهم هي التي تجعل قيادته مشرقة.