م.عبدالمحسن بن عبدالله الماضي
1 - كل مخلوقات الله تنبهر بالنور وتنجذب إليه.. تلك حقيقة واقعية وليست حقيقة جدلية.. فكل من وهبه الله بصراً وبصيرة لا بد أن يجذبه ضوء النور فيبصر خلق الله ويدل طريقه فلا يتعثر ويسير في الحياة سيراً حسناً.
2 - النور في بعده الفيزيائي يؤدي ذات الدور في بعديه العقلي والروحي.. من هنا يأتي الانبهار بالضوء الذي يصدم العين، أو الانبهار بالفكرة التي تصدم العقل، أو الانبهار بالرسالة التي تصدم الروح.. فتتوقف عندها وتستوعبها ثم تسير وفقها.
3 - الانبهار الفيزيائي بالضوء يقوم على حقيقة واقعة معيشة.. فالشمس هي المصدر الأول للضوء وهي تظهر في كبد السماء فلا تحتاج إلى برهان ولا تأكيد.
4 - الانبهار العقلي بالضوء يقوم على التشكيك ونقض البديهيات ومساءلة المُسَلَّمات.. ويعيش صاحبه تحت وطأة القلق والتوجس.. وأقل القلة هم الذين يرون نور العقل.. أما الأغلبية فيقاومونه، بل ويحاربون من يراه ويؤمن به حتى الموت أحياناً.
5 - الانبهار الروحي بالضوء قائم على اليقين بالمعتقدات والإيمان بالمُسَلَّمات والغيبيات.. ويحسها المؤمن من خلال القناعة والطمأنينة واكتفاء النفس بما لديها والطمع بالآخرة.
6 - اشتباك الفيزياء بالعقل بالروح في موضوع النور دعا المفكرين إلى فك الاشتباك.. لكن هيهات! فكل نور هو إضاءة إنسانية مهما كانت تسميتها.. فالفلاسفة ربطوا الأنوار بالعقل فقط ومنحوا الفيزياء مصطلح «ضوء».. لأنه ينبعث من مصدر محدد لزمن محدود ويضيء مكاناً محدداً.. فالضوء يسطع ويغيب؛ كالشمس مثلاً أو أجهزة الإضاءة الكهربائية ذات الطبيعة الاصطناعية.. بينما أنوار العقل ممتدة عابرة للأزمان والأمكنة.. تحلِّل وتشخِّص وتستنتج وتكتشف وتشرح الأحداث والمواقف والنتائج.. ويبني عليها المتأخرون ما استنتجه المتقدِّمون.
7 - إذا كان ضوء التيار الكهربائي «سلكياً» فإن ضوء التيار الفكري «لا سلكي».. وإذا كان ضوء التيار الكهربائي ينفد فإن ضوء التيار الفكري يتطور وربما يتبدل لكنه لا ينفد، بل يتراكم على شكل رصيد معرفي.
8 - أما أنوار الروح المتعلّقة بالدين والمعتقد فإنهم لم يمنحوها مصطلحاً له علاقة بالنور أو الإضاءة، بل منحوها مصطلحاً ذا علاقة بالسكينة والاطمئنان واليقين.. والتصديق بشيء لا يرونه ولا يجادلون فيه لكنهم يرتاحون إليه وأسموه بالاسم الذي اعتمدته الأديان وهو «الإيمان».
9 - مفكرو وفلاسفة العصر الحديث لم يكتفوا بقصر مصطلح الأنوار على العقل، بل استبعدوا الأنوار الآتية من الإضاءة الكهربائية واعتبروها أمراً صناعياً.. كما استبعدوا مصطلح الأنوار عن الروح.. فكيف يكون هناك نور وأنت تؤمن بأمر غيبي؟ ثم توسعوا فيما يعنيه مصطلح النور العقلي.. وعرَّفوه على أنه الرفع من شأن العقل والدعوة إلى استعماله في كل المجالات الإنسانية.. واعتبار التسامح بين المعتقدات والآراء والأعراف نوعاً من النور العقلي.. لذا يجب الرفع من شأن العقل والأفكار وإشاعة روح العلوم والمعرفة القائمة على العلم وحده وليس غيره.
10 - الأنوار العقلية تدعو إلى التمرّد على القائم من التقاليد، والسائد من الأعراف، والمطبّق من القوانين، والمتبع من المعتقدات، ونقد الذات التي تستمرئ القيود التي تحد من التقدّم البشري.. فلا تنتقدها أو تجادلها أو تحاول تصحيحها.
11 - أخيراً عرَّف (كانط) الأنوار فقال: الأنوار هي تحرّر الإنسان من قصوره الذي هو نفسه مسؤول عنه.. فالقصور هو عدم القدرة على استعمال العقل دون الاعتماد على قيادة أو توجيه الآخرين.. وهذا القصور ليس بسبب افتقاد العقل، بل بسبب افتقاد القرار في استخدام العقل دون الانقياد للآخرين.