د.فوزية أبو خالد
طرحتْ أليسا روبين الكاتبة الخبيرة بالشؤون الدولية والمعاصرة للشأن الأفغاني سؤالاً جارحاً كعنوان لمقالها في صحيفة النيويورك تايمز الأربعاء الماضي «هل كانت الحرب على أفغانستان أمراً لا مفر منه؟!»
وهو سؤال لا بد أنه دار في خلد كل إنسان بالمطلق وقتها وإلى اليوم، كما لابد أنه دار في خلد كل أمريكي راشد ملتزم بدفع الضريبة ومسؤول أمام صناديق الاقتراع الانتخابية، إلا أن السؤال -في رأيي ولابد في رأي غيري كالدكتور خالد الدخيل كما ألمح- قد جاء متأخراً عشرين عامًا.
وقد قدمت الكاتبة تحت هذا السؤال المتأخر تفاصيل دامية شديدة الدرامية ميدانيًا نتيجة لقرار الرئيس الأمريكي بوش الابن ووزير دفاعه دوانالد رامسفيلد بشن حرب فورية على أفغانستان (2001)، بما ظهر كقرار انتقامي ليس إلا لرد الاعتبار لكرامة السيادة الأمريكية الجريحة تحت ركام ناطحات مركز التجارة العالمي بنيويورك، وذلك باستهداف ما بدا وقتها هدفًا قريب المنال وهي أفغانستان أولاً، قبل إدخال بغداد على خط إعادة الهيبة الأمريكية. غير أن تحليل المقال المشار إليه لعشرين عامًا من التواجد الأمريكي العسكري يطرح سؤالاً آخر لا يقل أهمية ولا يقل تأخراً عن سابقه، وهو سؤال: لماذا رفضت أمريكا بالأمس عبر وسيطها في حينه كارزايا وهو الرئيس الذي جاءت به لسدة الحكم مجرد التفاوض مع حركة طلبان، وقد كانت الحركة حينها في أشد مواقف الضعف بعد إخراجها من السلطة، بينما تستعد اليوم أمريكا للدخول في مفاوضات مع الحركة نفسها بعد أن استجمعت تلك الحركة قواها واستطاعت أن تطرد الحكومة التي قامت في الظل الأمريكي بعد وقت قياسي من جلاء قوات الجيش الأمريكي وقوات حلف الناتو عن أرض أفغانستان؟!
والواقع أن هذا يذكر بأسئلة كثيرًا ما تستبعد في المواجهات السياسية الحادة مثل سؤال: هل حقًا لا خيار إلا الحلول الخشنة الغليظة والباهظة، وهل حقًا لا يمكن اختبار إمكانية التفاوض والحوار قبل الحلول الاقصائية القاصمة. وهي أسئلة على وطنيتها وضرورتها لأصحاب القرار فإنه لشد ما يجري الصمت عنها أو التقليل من شأنها أو تأجيلها إما جبنًا أو تسويفًا أو سوء تقدير خصوصًا عندما تكون تلك المواجهات السياسية ميالة أو معتمدة على استخدام القوة بحديها الذي قد يكون موجهًا للداخل بقدر ما يكون موجهًا للخارج. وهذا ما جعل السؤال يأتي متأخراً كما قلنا عشرين عامًا، لأن لا أحد في ذلك التاريخ إلا ندرة نادرة مثل أصحاب بيان «ليس باسمنا» كان يجرؤ أو يستطيع تحمل مسؤولية توجيه مثل هذا السؤال لبوش الابن وهو يتخذ قرار الحرب وترفض قواته فيما بعد مبدأ التفاوض.. دون أن تلاحقه مكارثية التشكيك في الوطنية وتبعاتها.
ومن وجهة نظر تخصص علم الاجتماع السياسي أجد في السؤالين المعنيين بعداً سياسياً وبعداً اجتماعياً وبعداً أخلاقياً أيضاً سواء في سؤال: هل كان لابد من الحرب؟ أو في سؤال لماذا تأجيل التفاوض ورفض لغة الحوار والاحتكام للغة القوة حينما يكون هناك متسع من الوقت لتفاوض من موقع قوة وبشروط عادلة أو على أقل تقدير شروط مقبولة من جميع الأطراف؟. فهل حقًا لم يكن هناك خيارات أمريكية أخرى لمواجهة أحداث 11-9 إلا شن حرب موسعة مبنية على الظن أو النوايا المبيتة بما طال المدنيين الأفغان بأكثر مما طالت الميليشيات وحكومة طالبان وحركتها بدليل عودتها إلى السلطة بعد عشرين عامً من الاستبعاد؟!
هل حقًا لم يكن بد من رفض التفاوض والاعتماد الكامل على حلول القوة وهي هنا القوة العسكرية الأمريكية التي لم ينتج عن احتلالها لأرض أفغانستان على مدى عشرين عامًا أي دولة مدنية قوية ولا أي مجتمع أهلي متماسك ولا أي جيش وطني قوي ولا أي اقتصاد منتج يستطيع أن يمنع البلاد وهي هنا أفغانستان من الوقوع فريسة سهلة لخيارين قاسيين إما السقوط في هوة حرب أهلية ماحقة أو العودة إلى أحضان حكم ظلامي ظالم لنفسه وللشعب الأفغاني وفي الوقت نفسه خطر على بلاده وعلى جواره الإقلمي القريب والبعيد.
ربما وأقول ربما لو كان الحل في أفغانستان قبل عشرين عامًا حلاً تفاوضيًا سلميًا وحلاً ديموقراطيًا حقيقيًا وليس صوريًا، وحلاً تنمويًا وليس مجرد (عمل عسكري يعتمد على القوة الفظة) لوجدنا طالبان نفسها ربما قد تطورت وخرجت من جلباب التشدد والتطرف والإرهاب لرحاب أرضية وطنية مشتركة، ولكان من الممكن أيضًا أن يكون النسيج الاجتماعي الأفغاني نفسه أكثر انسجامًا وأقل تشرذمًا سياسيًا وعسكريًا.
ولكن ما حدث أن ملاحقة طالبان لم تقض عليها وإنما دفعتها تحت الأرض لتعود من جديد وربما بالعقلية القديمة نفسه وبجرح نرجسي قد يزيدها شراسة وتشددًا -لا سمح الله.
على أن ما لا يُدرك جله لا يُترك كله، فلعل تعلم درس التاريخ أخيراً وإن جاء متأخراً ينقذ الغابة من حريق محتمل ولكنه ماحق إن وقع، بما يعيد تأهيل أفغانستان اقتصاديًا بغير الاعتماد على إنتاج المخدرات بل بالاتجاه لاستثمار ثرواتها بما يقلص الأطماع المحدقة، واجتماعيًا بغير الإقصاء والنعرات القبلية وسواها من مسوغات الانقسام، وسياسياً بالشراكات العادلة ودون اللجوء للقوة وإيدولوجيا بالاعتدال والتنوير.
ولله الأمر من قبل ومن بعد.