يمكن تعريف النضج العاطفي إجمالًا على أنه: مدى قدرة الفرد على إدراك مشاعره الحقيقية وتوجيهها بشكل واعي، ومدى تمكنه من فهم عواطف الآخرين والتأثير فيها بفاعلية. ويشير هذا التعريف إلى مفاهيم عدة منها علاقة وثيقة ذات انكشاف ومصارحة بين الفرد ونفسه، وإدراك مدروس لمختلف الانفعالات البشرية.
إن وجود مستوى جيد من النضج العاطفي يساعد الفرد على أن يكون أكثر توازناً في تعامله مع مشاعره الإيجابية والسلبية والتي تؤثر في قيادة حياته، واتخاذ قراراته، وتَلمُس حاجات الآخرين العاطفية. وكلما ارتفع مستوى ذلك النضج كلما كان الفرد أكثر تمكناً من استدعاء العواطف الإيجابية بسهولة، وكان أكثر هدوءًا تحت الضغوط، وذا قدرة على إدارة مشاعره، والاعتراف أنها مسؤوليته.
في حين أن الفرد غير الناضج عاطفياً يجد صعوبة بالغة في استكشاف حقيقة مشاعره القابعة خلف تصرفاته، فتكون حياته فوضى عارمة، وعلاقاته فاشلة، وقراراته متخبطة، ومزاجه كثير التقلب، وليخفف وطأة الذنب الذي يرافقه يلقي بمسؤولية مشاعره على الحياة والآخرين، فيمارس حيلاً دفاعية نفسية لا شعورية كالإسقاط والهروب تفاقم من سوء الوضع ولا تحسنه.
وأشير في هذا السياق إلى أن سوء تعامل الوالدين مع مشاعر أطفالهم كقمع المشاعر الإيجابية، أو حثهم على التخلص من مشاعرهم السلبية دون مواجهتها معهم أو احتوائها أو إتاحة فرصة التعبير عنها، يخلق لنا أفراداً بالغين غير ناضجين عاطفياً، لا يعرفون كيف يواجهون الألم أو يعبرون عن مشاعرهم الإيجابية، يشعرون أن المشاعر السلبية مصدر تهديد ينبغي أن يتم إزالته والسيطرة عليه، ويرفضون الاعتراف بوجودها، ويتعاملون بتبلد واضح مع المشاعر الإيجابية أو باهتمام مبالغ مفرط يخرج عن الحد الطبيعي.
ويزداد الأمر سوءًا في حال تَعرَض الفرد في بداية حياته لصدمات حادة وخبرات قاسية لم يتم علاجها، لتُخَلِف في داخله كتلة متراكمة من الإحباط العاطفي تكبر مع مرور الزمن وأحداثه، فيُسقِط إحباطه على العديد من تجاربه. وأذكر على سبيل المثال الفرد الذي تعرض في مرحلة ما لرفض أو هجر من والديه أو أحدهما سيجد صعوبة كبيرة في تكوين علاقات عاطفية مستمرة أو مستقرة، ما لم يدرك جذر ذلك الإحباط ويفككه. والحقيقة أن العديد من الاضطرابات النفسية المسببة لوجود مشكلات اجتماعية منشأها من عدة أسباب منها وجود إحباطات عاطفية لم تشفَ، مثل اضطراب الشخصية الحدية وغيرها.
إن النضج العاطفي لا يعني عدم مرور الفرد بتجارب مؤلمة، إنما هو حصيلة خبرات ذات معنى وتأثير تقود إلى مستوى من الاتزان العاطفي والحكمة المنشودة، تبدأ من إدراك الفرد للمرحلة الحالية من نضجه العاطفي وتستمر بسعيه الحثيث لتطويرها نحو مراحل مرضية تنعكس على جودة حياته. ولا ضير أن يستعين الفرد في تحسين نضجه العاطفي باختصاصيين اجتماعيين ونفسيين ذوي الكفاءة، إذ إنهم مؤهلين لإعداد وتطبيق مقاييس علمية ذات علاقة لقياس وتحديد المستوى الحالي المدروس، ومدربين على استخدام أساليب تشخيصية مهنية عدة، ويمتلكون أساليب علاجية موجهة للتغيير تتناسب مع مستوى وفردية كل حالة.
ومن منظور متخصصة وبشكل موجز أطرح بعض الوسائل العامة المساعدة في تحسين مستوى النضج العاطفي كالتالي: -أن يعي الفرد أنماط مشاعره الإيجابية والسلبية التي يشعر بها في المرحلة الحالية، ويتساءل عن دوره في تقليل السلبية وفي رفع الإيجابية منها، وعن الخطة التي سينتهجها لتحسين علاقته بمشاعره، كيف سيتصرف إذا انتابته مشاعر معينة، كيف يديرها، ويوجهها لما يريد، ويعبر عنها، ويستكشف أسباب مشاعره، ومستوى حدتها ...إلخ. -أن يخطط لتجربة أنواع جديدة من المشاعر لم يشعر بها منذ فترة طويلة. -أن يتدرب على الصمود أمام الضغوط والمواقف الصعبة. -أن يتبنى أفكاراً ذات قيمة ومنظوراً واسعاً، إذ إن العلاقة متلازمة ما بين الأفكار والمشاعر. -أن يحيط نفسه بعلاقات صحية غنية بالعواطف وغيرها.
يقول جون جوتمان: «اكتشف العلم قدرًا هائلاً حول الدور الذي تلعبه العواطف في حياتنا، ووجد الباحثون أن تأثيرها أكثر حتى من معدل الذكاء لديك، إذ سيحدد وعيك العاطفي وقدرتك على التعامل مع المشاعر نجاحك وسعادتك في جميع مناحي الحياة بما في ذلك علاقتك الأسرية». من هذا المنطلق يمكن القول إن الوعي العاطفي (النضج العاطفي) هو مسؤولية يتحملها كل فرد لاختيار مستوى جودة حياته، وهو ركيزة أساسية لحياة سعيدة.