عبدالرحمن الحبيب
تأثيرات جائحة كورونا في أنماط العمل مثل العمل عن بعد وإيصال المنتجات إلى المنازل لم تقتصر على تآلف الناس مع الأنماط الجديدة، بل إنها أظهرت إمكانية نجاحها، وعوَّدت الناس على كسر مفاهيم تنظيمية للعمل ترسخت في الأذهان وظن كثيرون أنه يستحيل تغييرها مثل عدد أيام العمل الخمسة في الأسبوع.. ومن ذلك فكرة أسبوع العمل المكون من أربعة أيام التي بدأ البعض بدعمها؛ وأشهرها التجارب التي أجراها مجلس بلدية مدينة ريكيافيك (أيسلندا).. ويتم الآن إجراء عدد من التجارب الأخرى في مواقع متفرقة من العالم مثل مايكروسوفت اليابان، وسلسلة مطاعم شيك شاك، ويونيلفر في نيوزيلندا، وبعض الشركات في إسبانيا.
المفاجئ أنه ظهر أحياناً أن خفض ساعات العمل كان أكثر إنتاجية، فضلاً عن منافعه الأخرى خارج العمل مثل قضاء مزيد من الوقت مع العائلة وإنجاز الأعمال المنزلية، وخفض تكلفة المواصلات وربما تقليل تلوث الهواء، إذ ذكر تقرير من بلاتفورم لندن (شهر مايو) أن ساعات العمل الأقصر قد تقلل من انبعاثات الكربون في يريطانيا. بالطبع، هناك تحديات وصعوبات جمة تعترض تطبيق العمل أربعة أيام بالأسبوع؛ فماذا تقول التجارب؟
تجربة مجلس بلدية ريكيافيك شمل أكثر من 2500 عامل (نحو 1 في المائة من السكان العاملين) بين عامي 2015 و2019، بتقليص ساعات عملهم بالأسبوع من 40 إلى 35 أو 36 ساعة مع الإبقاء على نفس الأجر، نشره مؤخراً تقرير Alda (مجموعة أيسلندية) وAutonomy (مؤسسة بريطانية تركز على مستقبل العمل)، كُتب في مقدمته: «لقد فقدنا إلى حد ما البصيرة بأن الحياة ليست مجرد عمل. تدور ثقافة العمل هنا، بالفعل، حول العمل لساعات طويلة، لكن ينبغي علينا إعادة التفكير في ثقافة العمل وتعديلها».
وفقًا للتقرير، لم ينخفض الناتج الإجمالي في معظم أماكن العمل، بل إنه تحسن في بعضها. فمثلا، سجل قسم المحاسبة في ريكيافيك زيادة بنسبة 6.5 في المائة في عدد الفواتير التي عالجها أثناء التجربة مقارنة بالفترة نفسها من العام السابق. كما أفاد العمال بأنهم يشعرون بانخفاض التوتر أو الإرهاق وبأنهم أكثر صحة أيضًا، وذكروا أن لديهم المزيد من الوقت لقضائه مع عائلاتهم، وممارسة الهوايات وإنجاز الأعمال المنزلية. هذه النتائج شجعت النقابات العمالية على الضغط من أجل ساعات عمل أقصر، واستجاب أرباب العمل بسرعة. منذ إجراء تلك التجارب، انتقل 86 في المائة من العمال الأيسلنديين إما إلى ساعات عمل أقصر أو حصلوا على الحق للقيام بذلك.. يقول ويل سترونج، مدير الأبحاث في Autonomy: «تُظهر هذه الدراسة أن أكبر تجربة في العالم على الإطلاق لأسبوع عمل أقصر في القطاع العام كانت بكل المقاييس نجاحًا مذهلا».
يتزايد انفتاح الشركات على فكرة أسبوع عمل أقصر، فمثلا مايكروسوفت من بين أولئك الذين جربوا أسابيع لمدة أربعة أيام في أجزاء من أعمالها بالسنوات الأخيرة. في إسبانيا تجرب حالياً أسبوع عمل مدته أربعة أيام للشركات، ويرجع ذلك جزئيًا إلى تحديات فيروس كورونا. كما تمنح شركة Unilever العملاقة للسلع الاستهلاكية الموظفين في نيوزيلندا فرصة لخفض ساعات عملهم بنسبة 20 في المائة دون الإضرار بأجورهم كتجربة للفكرة.
لكن القيام بذلك يطرح تحديات مثل تضايق العملاء أو انخفاض الإنتاج، لذا يقترح تقرير لمجلة الإيكونيميست أنه في البداية، يجب إعادة طريقة التفكير في أنماط العمل للتأكد من أن العمال يستخدمون وقتهم المنخفض بكفاءة مناسبة. بالنسبة لتجربتها في عام 2019، خفضت مايكروسوفت اليابان عدد الاجتماعات وشجعت على زيادة التعاون عبر الإنترنت. المفاجأة أن المبيعات زادت لكل موظف بنسبة 40 في المائة مقارنة بالعام السابق. أما التعامل مع العملاء المتضايقين، فقد يكون أحد الحلول هو تخصيص أيام إجازة مختلفة للموظفين لضمان توفر شخص ما دائمًا يقابل العملاء.
بالأساس فكرة أسبوع العمل لمدة خمسة أيام كانت غريبة على شعوب العالم، ولم تبدأ بالظهور إلا قبل قرن في الغرب، وقبل بضعة عقود في كثير من دول العالم بل إنها لم تطبق بالصين إلا عام 1995. ففي القرن التاسع عشر بدأ المديرين ورؤساء العمال في منح إجازة لمدة نصف يوم في أيام السبت لتشجيع العمال المحجمين عن العمل.. واستغرق التبني الواسع النطاق لأسبوع العمل المكون من خمسة أيام و40 ساعة عدة عقود أخرى للظهور؛ ففي فرنسا، وضعت اتفاقيات ماتينيون (1936م) قانون الأربعين ساعة في الأسبوع، فيما أقرت أمريكا قانون معايير العمل منح أجرًا إضافيًا للموظفين الذين يعملون أكثر من 40 ساعة (1940م).
الطرق الجديدة التي كان كثيرون يعتقدون أنها صعبة أو شبه مستحيلة أظهرت جائحة كورونا بأنها ممكنة وتغيرت معها وما زالت تتغير بعض المفاهيم وطرق التفكير في ثقافة العمل، فربما تثبت التجارب الواقعية أن الناس يمكنهم العمل لساعات أقل دون تقليل إنتاجيتهم الإجمالية وحتى لو انخفضت الإنتاجية قليلاً فإن ثمة أرباحاً من نوع آخر غير مادية.. يقول جو مونز، مؤسس شركة باكيدين البريطانية للخبز والكعك: «نعمل في الشركة أربعة أيام في الأسبوع لأن ذلك يجعل موظفينا أكثر حماسًا... إن ذلك يمنحهم شيئًا قيمًا حقًا قد لا يكون مرتبطًا بالنواحي المالية».