محمد سليمان العنقري
التغير بالتوازنات الجيوسياسية والاقتصادية الذي بدأ في العالم منذ ثلاثة عقود عندما تفكك الاتحاد السوفيتي وتغيرت بعدها موازين القوى العالمية عندما بدأ التنين الصيني بالصعود القوي بمعدلات النمو لتصبح الاقتصاد الثاني عالمياً بوقتنا الحاضر من حيث حجم الناتج الإجمالي كما أن توحيد دول الاتحاد الأوروبي لعملتهم قبل 22 عاماً وبداية التوجه للخروج من تبعيتهم لأمريكا ليكونوا منافسين لها زاد من حجم التغيرات الاقتصادية الدولية وهو ما أوجد بيئة خصبة لإطلاق مبادرات أطلقتها دول عديدة لإيجاد تحالفات وتكتلات ذات أبعاد اقتصادية شملت أغلب قارات العالم، إذ بات في كل قارة تكتل يجمع عدداً من دولها مثل تجمع «آسيان» أو دول «بريكس» وغيرها من التحالفات إلا أن ما تبنته الصين وأعلنت عنه العام 2013م يعد من أهم تلك المبادرات المتمثّل بإحياء طريق الحرير التاريخي أو ما بات يعرف بمبادرة «الحزام والطريق» التي لها أهداف اقتصادية عديدة واعدة وضخمة عند اكتمال ركائزها.
فهذه المبادرة التي تتدفق من خلالها الاستثمارات بالبنية التحتية في الدول التي تعد على خارطة المبادرة في دول آسيا الوسطى والجنوبية وكذلك المنطقة العربية وشمال إفريقيا وشرقها والوصول لأوروبا وذلك عبر برامج تمويل متعددة يقودها البنك الآسيوي للاستثمار بالبنية التحتية الذي أسسته الصين لدعم تمويل مبادرتها ويضم أكثر من 35 دولة ليس من بينها الولايات المتحدة الأمريكية التي أبدت تحفظها عند إطلاقه عام 2014 ، بل ذهب الكثير من ساسة أمريكا ومراكز الفكر والدراسات أن سياسة الصين عبر أذرع تمويل مبادرتها سواء عبر البنك الآسيوي أو التمويل المباشر منها إنما تضع الكثير من الدول النامية تحت فخ الديون لتصبح الصين نافذة سياسياً في جغرافيا العالم أما عن المبادرة نفسها فقد انضم لها أكثر من 60 دولة وأصبحت الصين الأولى عالمياً بحكم التجارة الدولية، بل في هذا العام نمت تجارتها مع العالم بوتيرة متسارعة حققت معها فائضاً بالميزان التجاري بلغ بالمتوسط 45 مليار دولار شهرياً فهدف المبادرة للصين هو تحقيق تنمية مستدامة باقتصادها من خلال التصدير واستقرار اجتماعي بتوليد ملايين فرص العمل سنوياً، فعدد سكانها 1.4 مليار نسمة يمثِّلون 18 بالمائة من سكان العالم.
لكن هل تسير هذه المبادرة نحو هدفها أم أنها بدأت تواجه عقبات كبيرة بعد أن أطلقت أمريكا مبادرة منافسة لها، بل وتمثِّل البديل حسب قناعة إدارة الرئيس الأمريكي بايدن، والتي أعلن عنها في قمة السبع الكبار في بريطانيا قبل عدة أشهر التي سميت إعادة بناء العالم ولم تتضح معالمها وحجم الذراع التمويلي لها وآليتها، لكن ما حدث من انسحاب أمريكي من أفغانستان بعد احتلالها لعشرين عاماً يمثّل مرحلة جديدة بخلط الأوراق على الصين ومحاولة تعطيل مبادرتها التي تعد آسيا الوسطى من أهم ممراتها جغرافياً، وكذلك من الأسواق المستهدفة وإن كانت أفغانستان الدولة المحاذية للصين ليست بدائرة اهتمام الصين سابقاً، فهي بالنسبة لها غير مستقرة ولم تكن بحسابات المبادرة لكنها الآن بالتأكيد ستنظر لها بحسابات مختلفة خوفاً وتحسباً للفوضى المحتملة بتلك المنطقة من العالم مما قد يقطع أحد شرايين المبادرة الرئيسية مما يعيقها بالوصول لأسواق أوروبا وتعميق التحالف مع دول القارة العجوز إحدى ركائز المبادرة، فانتشار أمريكا بالمحيطين الهندي والهادئ ودول آسيا المحيطة بالصين ووجودها بمناطق تدخل منها لبحر الصين الذي تعبره تجارة تقدَّر بخمسة تريليونات دولار، كل ذلك ينبئ بأن المواجهة عملياً بدأت مرحلتها الأهم التي إما أن تضعف مبادرة الحزام والطرق أو أن تعزِّز من النجاحات التي حققتها والتي ستظهر لاحقاً إذا ما كانت قد اكتسبت من القوة المناعة الكافية لتقليل أي مواجهة أمريكية لإضعافها سواء بتقطيع الطرق التي تمر بها من خلال التواجد الأمريكي أو الانسحابات التي تولد الفوضى بقرب الصين أو من خلال دعم المنافسين للصين من حيث التكلفة باقتصادات آسيوية وإفريقية وكذلك في أمريكا اللاتينية.
نجاح مبادرة الحزام والطريق لن يضع الصين في مقدمة العالم اقتصادياً فقط، بل وحتى سياسياً وهي تحاول تحقيق ذلك دون أن تضطر لتواجد عسكري دولي واسع لأنها لا تريد أن تكون طرفاً في نزاعات، بل شريكاً تجارياً وتنموياً لأغلب دول العالم وأمريكا تستشعر خطر تفوق الصين الذي إذا تحقق فهذا يعني إضعاف ثقل أمريكا دوليًا اقتصاديًا وسياسيًا والأهم قد يكون تدهور مكانة الدولار الذي يعد عملة الاحتياط الأولى بالعالم وحجر الزاوية في قوة أمريكا الاقتصادية عالمياً.