د. تنيضب الفايدي
يختلف الناس في مواجهة المصائب والنكبات التي تعترض حياتهم.. فهنالك من يستغرق في حزن عميق ويقضي بقية حياته في حزنه، وهنالك من يحزن قليلاً ثم يواصل حياته مُحْتَسِباً خسائره التي فقدها جراء تلك النكبات.. أما الناجحون فهم أولئك الذين يستطيعون أن يُحَوِّلُوا خسائرهم إلى مكاسب.. وهذا فن لا يجيده إلا القليلون مِنَّا.. وإذا عرفت هذا الفن تكون أنت من أكبر السعداء، وفي هذا الخصوص يقول تشارلس داروين صاحب نظرية التطور والارتقاء الذي غيّر نظرة الناس إلى الحياة، يبرز إلى هذا المسرح ليقول:
«لو لم أكن طريح الفراش لما استطعت إنجاز أي عمل من أعمالي».
فَإِمّا أن نسمح لتلك النكبات أن تهزمنا لنقضي حياتنا في التحسر والرثاء.. أو أن نجعل منها فرصة عظيمة لتغيير حياتنا نحو الأحسن.. فكم من الناس حققوا نجاحات باهرة داخل السجن، حيث حفظوا كتاب الله العزيز وهم في السجن، كما ألفوا كتاباً لا مثيل له في النفع وهم في داخل السجن، فنقل اللكنوي رحمه الله أن صاحب كتاب المبسوط أملى كتابه المبسوط نحو خمسة عشر مجلداً وهو في السجن، وله كتاب في أصول الفقه، وشرح السير الكبير، أملاه وهو في الجب، ولما وصل إلى باب الشروط حصل له الفرج فأُطْلِق.
وكتب أحمد بن علي بن هبة الله الزوال ثمانين مجلداً وهو في السجن. وإبراهيم بن هلال بن إبراهيم أبو إسحاق الصابئ كتب التاجي في أخبار بني بويه وهو في السجن، وذكر القفطي أن عضد الدولة سجنه مدة طويلة فقال إن أراد الخروجَ من سجنه فليصنِّف مصنَّفاً في أخبار آل بويْه فصنف الكتاب (التاجي).
وشيخ الإسلام ابن تيمية صنف كثيراً من المؤلفات في السجن، قال عنه تلميذه الحافظ ابن عبدالهادي: «وللشيخ من المصنفات والفتاوى والقواعد والأجوبة والرسائل وغير ذلك من الفوائد ما لا ينضبط ولا أعلم أحداً من متقدمي الأمة ولا متأخريها جمع مثل ما جمع، ولا صنف نحو ما صنف ولا قريبا من ذلك، مع أن أكثر تصانيفه إنما أملاها من حفظه وكثير منها صنفه في الحبس، وليس عنده ما يحتاج إليه من الكتب.
كما كتب عبد الملك بن غصن الخشني أبو مروان كتابه (السجن والمسجون والحزن والمحزون) وهو في السجن.
وأبو الكلام آزاد ألف كتابه التذكرة في السجن، سجل فيه فلسفته الثورية وعقيدته السياسية. كما كتب مدحت باشا مذكراته وهو في سجن الطائف.
والشيخ المحدث محمد ناصر الدين الألباني لخص وهذب كتاب صحيح الإمام مسلم في السجن، يقول رحمه الله: سجنت بضعة أشهر وما معي إلا كتابي المحبب (صحيح الإمام مسلم) وقلم رصاص وممحاة، وهناك عكفت على تحقيق أمنيتي في اختصاره وتهذيبه وفرغت من ذلك في نحو ثلاثة أشهر، كنت أعمل ليل نهار دون كلل ولا ملل.
فانظر كيف هم استغلوا مكان السجن الذي هو من دواعي القلق في تأليف الكتب القيمة، وقد استفاد منها جيلٌ بعد جيل. يقول دايل: لو كان لي الأمر لحفرت هذه الكلمات الخالدة التي نطق بها «وليم بوليتو» على لوحات من البرونز وبعثت لكل مدرسة لوحة: ليس الشيء المهم في الحياة أن تنال ثمرة أتعابك، بل المهم فيها أن تحول خسائرك إلى مكاسب. فإن اقتطاف ثمرة العمل يستطيع أي أبله أن يقوم بها، أما تحويل المكاسب من الخسائر فهو أمرٌ يتميز عنده الأحمق من العاقل.
إذن ، لكي تتخذ اتجاهاً ذهنياً يبعثك على البهجة والسعادة، اتبع هذه القاعدة: عندما تجد في يديك ليمونة مالحة، حاول أن تجعل منها شراباً طيباً حلو الطعم.