د. هيا بنت عبدالرحمن السمهري
النخلة تلك الشجرة الطيبة الباسقة إلى عنان السماء كانت وما زالت انسجاماً تليداً مع كل المتغيرات الحضارية في العهود المختلفة؛ وهي من أقرب الأصدقاء للعرب في جزيرتهم لا يضاهيها سوى الناقة والفرس؛ وحظيتْ النخلة بفيض من النسيب الخاص بالصحراء حيث منابت النخيل حين يحملها الاستحضار للأماكن والمواقف الممهورة بالخير، فالنخلة هي الشجرة الطيبة كما قال تعالى في محكم تنزيله:
{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}، وقال عز وجل {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ رِزْقًا لِّلْعِبَادِ}، وامتنّ الله سبحانه على مريم في محكم تنزيله فقال لها {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا}.
وفي العهود التليدة للعرب أشبعوا النخلة أوصافاً، وامتزجتْ بها عواطفهم وكانت من علائقهم التي لا تباع ولا تُعار..
يقول أبو نواس واصفاً النخيل:
كرائم في السماء زُهينَ طولا
ففات ثمارها أيدي الجناتِ
قلائص في الرؤوس لها ضروع
تُدرُّ على الأكفِ الحالباتِ
وتجلّتْ النخلة إلى عهودنا الحديثة فكانت رفيقة لإنجازاتها بإستراتيجية اقتصادية مضمونة النتائج بإذن الله؛ وأمنٍ غذائيٍّ وظل ظليل واصطفاف من الأرض إلى الفضاء يخلب الألباب، وللنخلة عالمها الحديث، وهو عالم الاندماج بكل الاحتفاءات التي تحيطها لتجعل من مواسمها مهرجانات عطاء وفرح، ولم يطو قيمة النخلة واقع الحياة اليوم، ووسائل العصر الحديث والتحولات إلى رقمنة الواقع المادي؛ فبقيت النخلة خالدة مع الحياة ولم تعتصرها قوة ولا قوى، وتصدرتْ النخلة متكآت الأمن الغذائي في منتديات الحديث في السلم والحرب والكوارث والمجاعات والأوبئة، فقد كانت النخلة مُدخراً عاشت عليه جزيرة العرب قروناً فكانت لها غذاء رئيساً؛ وتحتضن أرض بلادنا الغالية المملكة العربية السعودية أكثر من 30 مليون نخلة وفق الإحصاءات الأخيرة تُنتج أكثر من مليون ونصف طن من التمور يتم بيعها واستثمار محصولها ومخزونها محلياً وخارجياً، وتتوافر في مزارع النخيل في بلادنا أصناف كثيرة من التمور التي تختلف في كمية إنتاجها، ومن أبرزها البرحي والخضري والخلاص والرزيز والسكري والرشودية والشيشي والصفاوي والصفري والصقعي والعجوة والعنبرة والحلوة والبرني والروثانة والمكتومي ونبتة علي وشقراء ونبتة سيف وغيرها من الأصناف.
وكان للنخلة في منتجها ومنتجاتها في الأقاليم السعودية شهرة منذ القدم؛ يقول ابن الفقيه في كتاب البلدان:
«وأما تمر اليمامة فلو لم يعرف فضله إلا أن التمر يُنادى عليه بين المسجدين يمامي، يمامي؛ فيباع كل تمر من جنسه بسعر اليمامي بمجرد أن يدعي أنه يمامي»! ومنذ عهد المؤسس الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود تشكل من النخلة والسيف شعاراً للمملكة العربية السعودية؛ فالنخلة رمز للأمن الغذائي والسيف للأمن الاجتماعي! فأصبحت مواسم النخيل تشدُّ أنظار العالم من خلفنا، وغدتْ تجارة التمور من أعلى المحاصيل الزراعية مردوداً، وتربعت النخلة على حيازة المال وصناعة الأعمال فدخلتْ التمور أروقة المصانع بمشتقات جميلة حلوة المذاق مستخلصة من التمور، وتواجدتْ النخلة في كل فضاءاتنا بوصفها حقيقة للحاضر ووقاراً للماضي، وأضحتْ الأجيال الحاضرة ترى مهرجانات تجارة التمور وتسويقها والتباري في حيازة أنواعها، وكانت وما زالت مواسم الاحتفاء بالنخيل وإنتاجها تحدث في تتابع يكاد لا ينفك، وما نشهده هذه الأيام في مهرجان بريدة للتمور نموذج ومثال باذخ فاخر على حضور النخلة ومنتجها في الوسط المحلي المجتمعي الذي أصبحت له إضاءات خارج بلادنا، فجزء كبير من إنتاج التمور يُصَدّرُ للخارج مباشرة في موسمه أو بعد تصنيعه، ونظرة حديثة للنخلة يحتاج واقعها للمزيد من الأبحاث العلمية لتحقيق الاستثمار الأمثل، وأن تتحد جميع محاضن الإعداد والتشغيل لمهرجانات التمور في مناطق بلادنا لصياغة منهجية تسويقية تجعل من منتج التمور في صدارة استثمارات بلادنا الاقتصادية، خاصة أن بلادنا تملك من منتج النخيل ما ندر نوعه وطاب إنتاجه؛ وأن تكون ثقافة خدمة النخلة نشراً حديثاً ذا صوت في إعلامنا وبين أجيالنا؛ وألا يكون حضور النخلة في واقع أجيالنا خافتاً، وأن يشجع البحث العلمي في مجال الاستفادة من التنوع لإنتاج أنواع وسلالات جديدة تتوافق مع متطلبات المجتمعات اليوم وتخدم الجانب الصحي الوقائي، ويلزمنا كوادر وطنية تكون صديقة للنخلة منذ غرسها وذلك بتمهين وتخصيص زراعة النخيل وتصنيع منتجاتها والعناية بها، كما أن تسويق منتجات النخيل يلزمه إستراتيجية تتطور سنوياً وفق متطلبات السوق المحلي والخارجي!
بوح،،
مغارسُ نخل أنت تحيا هدية
إذا ماخليل في الهوى صدق الخلا