عرفت الدكتورة نورة -رحمها الله- منذ ما يقرب من 35 عامًا حينما التقيتها لأول مرة في ندوة دراسات الجزيرة العربية (The Seminar for Arabian Studies) التي ينظّمها مجموعة من المستعربين المتخصّصين والمهتمين بتاريخ جزيرة العرب وآثارها وتراثها، وكانت -حينذاك- معيدة في قسم التاريخ بجامعة الملك سعود، وهو القسم نفسه الذي عُدت إليه للتوّ من بعثتي في بريطانيا وباشرت فيه عملي أستاذًا مساعدًا. وكان مع الدكتورة نورة في غالب لقاءاتي بها في لندن اثنتان من زميلاتها هما: عواطف سلامة وهتون الفاسي، وكلهن متخصّصات في التاريخ القديم لجزيرة العرب، إلا أن الدكتورة نورة تتفرّد عن زميلتيها بأن تخصّصها في اليمن قبل الإسلام، وتحديدًا في مواطن سَبَأ وحِمْيَر والكتابة المسندية التي كانت سائدة في اليمن قبل الإسلام، وربما استمرت إلى ما بعد الإسلام طبقًا لما يورده الهمداني في كتابه الإكليل.
استمر لقائي سنويًا بالدكتورة نورة وزميلتيها عواطف وهتون في أكثر أزمنة انعقاد الملتقى المذكور في لندن وأكسفورد ودرهام حتى استقر انعقاده نهائيًّا في لندن في قاعة المتحف البريطاني نزولاً عند رغبة المشاركين من خارج المملكة المتحدة، وما أكثرهم من أوروبا وأمريكا والشرق الأقصى والشرق الأوسط بمن فيهم نحن العرب خصوصًا من المملكة العربية السعودية واليمن!!
كانت الدكتورة نورة محطّ أنظار كثير من معارفها المشاركين في الملتقى لهدوئها وتعقّلها ورزانتها، وحرصها على حضور كل الجلسات دون انقطاع، والإصغاء باهتمام إلى كل ما يُلقى فيها، وخصوصًا ما يتعلّق منه بتاريخ اليمن القديم، ولم تترك د. نورة شاردة ولا واردة من المعلومات التي تخدم تخصّصها دون تسجيلها في مفكرتها التي لا تفارق يدها. وكانت في ساعات الاستراحات تقتنص الفرص للاستيضاع من كبار أساتذة اللغات السامية القديمة من أمثال الألماني مُوْلَر والبريطاني بِييستون، والفرنسي روبان، والأردني محمود الغُوْل، واليمني يوسف عبد الله، وهذا الأخير هو الذي ناقشها - فيما بعد - في رسالة الدكتوراة بوصفه ممتحنًا خارجيًّا.
أما خارج أروقة الملتقى فكنت كثيرًا ما التقي بالدكتورة نورة وزميلتيها الدكتور عواطف والدكتورة هتون.. كنا نجلس معًا، ونأكل معًا أحيانًا، ثم توثّقت علاقتي أكثر بالدكتورة بعد زاوجي بصديقتها وزميلتها وأقرب الناس إلى قلبها الدكتورة إلهام بنت أحمد البابطين، وكذلك بعد تأسيس جمعية التاريخ والآثار بدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية التي كانت من أوائل من انخرط في عضويتها بدعوة مني، ومن أكثر من أسهم في دعمها ماديًّا ومعنويًّا، ثم انتمت د. نورة إلى عضوية اتحاد المؤرخين العرب بالقاهرة الذي كان لي - ولله الحمد - شرف الإسهام في انتقاله من بغداد إلى القاهرة بعد احتلال الكويت في عام 1990م، وكانت جمعيتنا الخليجية تعقد ندوة سنوية في عاصمة دولة من دول مجلس التعاون في شهر إبريل من كل عام، ويعقد اتحاد المؤرخين العرب ندوة مماثلة في أواخر كل عام ميلادي. وفي كل مرة كانت الدكتورة نورة وزوجتي الدكتورة إلهام وأنا نسافر على رحلة واحدة، ونقيم في فندق واحد، ونتنقّل بسيارة واحدة، وقلما نفترق إلا في وقت المنام. وكذلك تواصلت لقاءاتنا في ملتقى دراسات الجزيرة العربية في لندن التي لم تنقطع الدكتورة نورة عن حضوره حتى آخر ملتقى عُقد في هولندا قبيل العزل المترتّب على جائحة كورونا (كوفيد-19). وهذا هو الملتقى الوحيد الذي حضرته بمفردها دون أن نكون معها -رحمها الله- لظروف خارجة عن إرادتي وإرادة زوجتي، ولهذا فإن شهادتي فيها شهادة شاهد عيان ورفيق درب في سَفَر وحَضَر. كانت الدكتورة نورة نسيج وحدها في دينها وكرمها وأخلاقها وفي حفاظها على الصداقة والعشرة.. كانت متديّنة سجادتها لا تفارق شنطتها التي ما أن يحين وقت الصلاة في الندوات التي نحضرها حتى تتنحّى جانبًا مع صديقتها ورفيقة دربها د. إلهام البابطين لتأدية الصلاة.. كانت مداومة على أداء العمرة مع أمّها -رحمها الله- التي سبقتها إلى لقاء ربها قبل سنتين، ولم تنقطع عن العمرة بعد وفاة أمها ربما مع بعض أقاربها، وكانت تداوم الصوم تنفّلاً في كثير من الأوقات المستحبّ فيها الصيام، وهي كريمة كثيرة الإنفاق في وجه الخير، ولها ولأخواتها وبناتها في مسقط رأسها بعنيزة كثير من المآثر، وكانت كثيرة الصدقة، وبذل الإكراميّات السخيّة للعاملين في الفنادق والمطاعم وخلافها حتى إنها ربما كانت تعطي للسائق الذي كان يعمل معنا في مصر من إكراميّات أكثر مما كنت أعطيه من أجرته اليومية.
وكانت -رحمها الله- حينما نحضر ندوة اتحاد المؤرخين العرب بالقاهرة تصطحب معها أحمالاً من البلح السكري الفاخر. وكانت تقوم بعد صلاة الفجر في الفندق مع صديقتها الأقرب إلى قلبها د. إلهام بإعداد حافظات كبار من القهوة المبهّرة بالهيل والزعفران لاصطحابها معهما إلى مقر الندوة مع البلح السكري لتقديمه للحضور طوال وقت الندوة، فضلاً عما كانت تصطحبه معها من كراتين خاصة من البلح السكري لتوزيعها على أعضاء مجلس الإدارة من غير الخليجيين، وعلى الموظفين الآخرين بالاتحاد مع إكراميّات أخرى سخيّة، وهذا كان ديدنها من كل عام.
رغبت إليّ الدكتورة نورة وبمبادرة منها تأسيس جائزة في جمعيتنا باسم والدها معالي الدكتور عبد الله النعيم قيمتها مائة ألف ريال سعودي على أن يكون جزءًا من المبلغ إعانة للجمعيّة، وفعلاً وضعت لائحة داخلية للجائزة اسمها: جائزة معالي الدكتور عبد الله النعيم لخدمة تاريخ الجزيرة العربية وآثارها، فكان لتلك الجائزة صدى واسعًا في وسائل الإعلام، وفي أوساط أهل الاختصاص، وبعد عام رغبت إليّ تأسيس جائزة مماثلة في اتحاد المؤرخين العرب، فكانت بالمواصفات نفسها مع مراعاة العامل الجغرافي، وهو أن الأولى على مستوى الجزيرة العربية، والثانية على مستوى العالم العربي، لذلك كان اسمها: جائزة معالي الدكتور عبد الله النعيم لخدمة تاريخ الوطن العربي وحضارته، وللأمانة فإن الدكتورة نورة أخبرتني بأن هذه الجائزة مموّلة منها ومن أخيها المهندس علي النعيم، وأخواتها الدكتورة لولوة والدكتورة عزيزة والدكتورة هناء والأستاذة منال، وبناءً على ذلك نَصَّيْتُ في اللائحة التنفيذية لكل جائزة بأنها مموّلة من المذكورين جميعًا. أسأل الله تعالى أن يطرح الخير والبركة في عائلة النعيم وذريّاتهم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ويرتبط بذكر عائلة النعيم ما علمته علم اليقين من شديد حبّ الدكتورة نورة لأسرتها؛ فهي دائمة الترحّم على زوجها الدكتور صالح النعيم الذي سبقها إلى الدار الآخرة بحوالي أربعة عشر عامًا، ودائمة الثناء على أخيها وأخواتها وأبنائهم وبناتهم.. شديدة الحب لحَفَدْتِها من ابنتيها د. لمياء وأ.نجلاء، وكانت كثيرًا ما تردّد بإعجاب شديد ما كان يدور بينها وبين حفيدتها الطفلة أَسِيْل بنت لمياء ذات الأربعة أعوام من أقوال وأفعال.
أما على المستوى العلمي فالدكتورة نورة معدودة في العلماء المتخصّصين في تاريخ الجزيرة العربية القديم وكتاباتها، ومن الحُذّاق في قراءة نصوص الخط المسند الجنوبيّ ودارسته وتحليله، واستنباط الحقائق التاريخية من مضامين نصوصه، وهي شَيْخَة في علمها.. أستاذة في تخصّصها.. منضبطة في تأدية واجباتها الوظيفية والتدريسية والإشراف على طالبات الدراسات العليا اللاتي تعاملهن بلطفها المعهود وكأنهن بمنزلة بناتها.. تَمْحَضَهُنّ النصيحة والتوجيه الدقيق، ولم تبخل عليهن بغزير علمها، وحصاد خبرتها وتجربتها، وإعارتهن ما يحتجن إليه من مصادر ومراجع من مكتبتها العامرة بكثير من الدراسات النادرة، وتقارير البعثات الأثرية العالميّة، وتساعدهن حتى في ترجمتها من اللغة الإنجليزية التي تجيدها تحدثًا وكتابة إلى اللغة العربية.
عملت الدكتورة نورة وكيلة لقسم التاريخ (مرتين)، ووكيلة لكلية الآداب، فأدارتهما باقتدار، وكانت كالسيف في غير تسلّط، وإنما في سبيل خدمة المصلحة العامة لجامعتها ومجتمعها وزميلاتها وتلميذاتها، وخرجت الدكتورة نورة من التجربتين الإداريتين مجمّلة دون أن تخسر زميلاتها، أو تفرّط في المصلحة العامة.
هذا غيض من فيض مما تختزنه ذاكرتي عن الدكتورة نورة على مدى خمسة وثلاثين عامًا عرفت فيها من التديّن والأخلاق والطيبة والوفاء وحسن المعشر والصدق والتصدّق والعلم والانضباط في العمل واحترام النظام ما لا يتوافر في أي شخص آخر إلا أن يكون في مثل الدكتورة نورة التي اجتمعت فيها وحدها كل هذه المُثُل العليا، فرحمها الله رحمة الأبرار، وحشرها في زمرة المصطفين الأخيار، وجعل الجنة مستقرها ومأواها مع الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
** **
أ.د. أحمد بن عمر آل عقيل الزيلعي - أمين عام جمعية التاريخ والآثار بدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية