صبار عابر العنزي
أديب وداعية وفقيه، له أسلوب مميز في تناول الموضوعات الإسلامية والاجتماعية، باحثًا عن مقاصد العبادات ومفارقات الحياة.. يمزج الوعظ، بالتأمل، بالدرس الاجتماعي؛ ليصنع أسلوبًا بديعًا، يَجذب النفس ويُيسر لها جليل المعاني، عرفه واحبه المشاهد السعودي من خلال برنامجه اليومي الرمضاني «على مائدة الأفطار» الذي ما زال يعيش في وجدان الجميع...
إنه الشيخ علي الطنطاوي (23 جمادى الأولى 1327هـ 12 يونيو 1909م - 18 يونيو عام 1999م الموافق 4 ربيع الأول 1420هـ)، هو فقيه وأديب وقاضٍ سوري، ويُعد من كبار أعلام الدعوة الإسلامية والأدب العربي في القرن العشرين، رأس اللجنة العليا لطلاب سوريا في الثلاثينيات لثلاث سنين، وكانت لجنة الطلبة هذه بمنزلة اللجنة التنفيذية للكتلة الوطنية التي كانت تقارع الاستعمار الفرنسي لسوريا...
ذكر موقع رابطة أدباء الشام أن أصل أسرة الطنطاوي يعود إلى طنطا عاصمة إقليم الغربية في مصر التي قدم منها (عام 1839م) جده أحمد بن علي بن مصطفى مع عمه (عم الجد) الشيخ محمد الفلكي الذي أدخل علم الفلك إلى دمشق. قرأ الشيخ محمد الطنطاوي على محدث الشام في تلك الأيام الشيخ عبد الرحمن الكزبري والشيخ سعيد الحلبي وغيرهم. والقضاء هو مقياس الخير في الأمم وهو معيار العظمة فيها, وهو رأس مفاخر كل أمة حية وراشدة الذي ناله هذا الشرف شيخنا الراحل...
كان أديباً كتب في كثير من الصحف العربية لسنوات طويلة أهمها ما كان يكتبه في مجلة الرسالة المصرية لصاحبها أحمد حسن الزيات واستمر يكتب فيها عشرين سنة منذ سنة 1933م إلى أن احتجبت سنة 1953م...
والده الشيخ مصطفى الطنطاوي من العلماء المعدودين في الشام وانتهت إليه أمانة الفتوى في دمشق، وأسرة أمه أيضاً (الخطيب) من الأسر العلمية في الشام وكثير من أفرادها من العلماء المعدودين ولهم تراجم في كتب الرجال، وخاله، أخو أمه هو محب الدين الخطيب الذي استوطن مصر وأنشأ فيها صحيفتَي «الفتح» و»الزهراء»، وكان له أثر في الدعوة فيها في مطلع القرن العشرين...
برز اسم الشّيخ -رحمه الله- كواحد من أهمّ رموز العمل الإسلامي والدّعوي في القرن العشرين، فقد تميّز الشّيخ علي الطّنطاوي بعلمه الغزير في مجال الأدب والتاريخ والقانون والعلم الشَّرعي...
عمل منذ شبابه في سلك التعليم الابتدائي والثانوي في سوريا والعراق ولبنان حتى عام 1940م. ترك التعليم ودخل سلك القضاء، فأمضى فيه 25 عاماً من قاضٍ في النبك ثم في دوما ثم انتقل إلى دمشق فصار القاضي الممتاز فيها ونقل مستشاراً لمحكمة النقض في الشام، ثم مستشاراً لمحكمة النقض في القاهرة أيام الوحدة مع مصر...
كُلِّف بوضع قانون كامل للأحوال الشخصية عام 1947م، وأُوفد إلى مصر مدة سنة فدرس مشروعات القوانين الجديدة للمواريث والوصية وسواها، وقد أعدَّ مشروع قانون الأحوال الشخصية كله وصار هذا المشروع أساساً للقانون الحالي...
توفي والده وعمره 16 عامًا فصار عليه أن ينهض بأعباء أسرة فيها أمٌّ وخمسة من الإخوة والأخوات هو أكبرهم، ومن أجل ذلك فكَّر في ترك الدراسة واتجه إلى التجارة، ولكن الله صرفه عن هذا الطريق فعاد إلى الدراسة ليكمل طريقه فيها، ودرس الثانوية في «مكتب عنبر» الذي كان الثانوية الكاملة الوحيدة في دمشق حينذاك، ومنه نال البكالوريا (الثانوية العامة) سنة 1928م...
ثم ذهب إلى مصر ودخل دار العلوم العليا، وكان أولَ طالب من الشام يؤم مصر للدراسة العالية، ولكنه لم يتم السنة الأولى وعاد إلى دمشق في السنة التالية (1929) فدرس الحقوق في جامعتها حتى نال الليسانس (البكالوريوس) سنة 1933م.
يقول الشيخ الطنطاوي إن من أهم الكتب التي لها أثراً في النفس وجلباً للسعادة كتاب «دع القلق وابدأ الحياة» الذي ألفه ديل كارنيجي وترجمه عبد المنعم الزيادي، والذي فصل فيه قيمًا عن أثر الإيمان في سعادة الإنسان، روى فيه عن وليم جيمس (فيلسوف أميركا الذي كان أستاذ الفلسفة بجامعة هارفارد قوله: «إن أعظم علاج للقلق هو الإيمان»...
عام 1963م سافر إلى الرياض مدرّساً في «الكليات والمعاهد» (وكان هذا هو الاسم الذي يُطلَق على كلّيتَي الشريعة واللغة العربية، وقد صارت من بعد جامعة الإمام محمد بن سعود)، وفي نهاية السنة عاد إلى دمشق لإجراء عملية جراحية بسبب حصاة في الكلية عازماً على أن لا يعود إلى المملكة في السنة التالية، إلا أن عرضاً بالانتقال إلى مكة للتدريس فيها حمله على التراجع عن ذلك القرار...
اهتم الشَّيخ الطَّنطاوي بالكتابة في الصُّحف والمجلات حيث نشط في هذا المجال منذ أن كان 17 من عمره، وقد شارك مع خاله محبّ الدّين الخطيب في تحرير جريدتي الفتح والزَّهراء، كما كان مديراً لتحرير جريدة الأيّام في فترةٍ من فترات حياته، بعد إغلاق صحيفة الأيام التحق بسلك التَّعليم، حيث أمضى فيه فترة تقارب عشر سنوات معلِّماً وموجِّهاً وتربويّاً قلَّ أن يُرى مثله...
ساء السّلطات الحاكمة في ذلك الوقت مما كان يتحدّث فيه الشّيخ علي من أمور الأمّة الإسلاميّة أمام الطّلبة فقرّروا نقله إلى سلك القضاء الذي استمر عاملاً فيه وقاضياً فترةً تقارب 25 سنة ثم انتقل الشّيخ في منتصف عمره تقريباً إلى السّعودية، حيث انتقل إلى مكة ليمضي فيها (وفي جدّة) 35 عامًا، إذ عمل في المعاهد والكليّات الشّرعيّة وكان يلقي الخطب والمواعظ ويعقد المجالس...
ساهم الشيخ الطنطاوي في إثراء اللغة العربية والأدب والفلسفة والتاريخ عن طريق أعماله الأدبية المهمة التي تدل على عبقريته وبراعته ومنهجه الفريد في الكتابة وأسلوبه الرائع الممتاز بالحيوية ودقة التصوير وروعة الأداء، وجمال العبارة...
له فلسفة في الأصحاب إذ يراهم خمسة: صاحب كالهواء لا يُستغنى عنه، وصديق كالغذاء لا عيش إلا به، ولكن ربما ساء طعمه، أو صعب هضمه، وصاحب كالدواء مرٌّ كريه، ولكن لا بد منه أحياناً، وصاحب كالصهباء (الخمر) تلذُّ شاربها، ولكنها تودي بصحته وشرفه، وصاحب كالبلاء...
وكتب.. هل رأى أحد منكم يوماً جنازة؟ هل تعرفون رجلاً كان إذا مشى رج الأرض، وإن تكلم ملأ الأسماع، وإن غضب راع القلوب، جاءت عليه لحظة فإذا هو جسد بلا روح، وإذا هو لا يدفع عن نفسه ذبابة. هل سمعتم بفتاة كانت فتنة القلب وبهجة النظر، تفيض بالجمال والشباب، وتنثر السحر والفتون جاءت عليها لحظة فإذا هي قد آلت إلى النتن والبلى، ورتع الدود في هذا الجسد الذي كان قبلة عُبّاد الجمال، وأكل ذلك الثغر الذي كانت القبلة منه تشترى بكنوز الأموال؟!!
هل قرأتم في كتب التاريخ عن جبار كانت ترتجف من خوفه قلوب الأبطال، ويرتاع من هيبته فحول الرجال، لا يجسر أحد على رفع النظر إليه، أو تأمل بياض عينيه، قوله إن قال شرع، وأمره إن أمر قضاء، صار جسده تراباً تطؤه الأقدام، وصار قبره ملعباً للأطفال...
لماذا تقرؤون المواعظ، وتسمعون النذر فتظنون أنها لغيركم؟
وترون الجنائز وتمشون فيها فتتحدثون حديث الدنيا، وتفتحون سير الآمال والأماني.. كأنكم لن تموتوا كما مات هؤلاء الذين تمشون في جنائزهم، وكأن هؤلاء الأموات ما كانوا يوماً أحياء مثلكم، في قلوبهم آمال أكبر من آمالكم، ومطامع أبعد من مطامعكم؟...
للشيخ العديد من القصص الطريفة التي لا تجعلك تقهقه من الضحك فقط، بل تأخذ من جراء الضحك نصيحة وحكمة لا تنساها مدى الحياة، ففي العراق، حيث كان منتدباً لتدريس الأدب هناك، قبل أن يدخل إلى القاعة في الجامعة، قام بالتجول في بغداد ومشى كثيراً إلى أن بدى عليه الإرهاق والتعب وكان في حالة رثة، ثم دخل على الطلاب وكان لديهم مدرس آنذاك، فظنه الأستاذ أنَّه أحد الطلاب، فقال له: وأنت يا زمال (يا حمار)، لماذا تأخرت عن الحصة؟
فقام الشيخ الطنطاوي بالاعتذار منه وجلس مع الطلاب في الصف ثم أردف الأستاذ قائلاً للطلاب: «سيأتيكم معلم لتدريس الأدب وهو الأديب الكبير علي الطنطاوي فلا تسودوا وجهي أمامه»...
واستمر يسألهم في الأدب والأدباء، وما كان من الشيخ الطنطاوي إلا أنَّه يجيب على الأسئلة فأخبره الأستاذ قائلاً: أنت طالب جيد ما اسمك؟ «فأجابه، اسمي (علي الطنطاوي) فكاد الأستاذ أن يغمى عليه، ومن هنا علمنا الشيخ الطنطاوي ألا نحكم على الناس بأشكالهم، بل بعقولهم...
عاش حياة حافلة بالأحداث زاخرة بالأعمال الجليلة، وقد أتيح له تسجيل بعضها، كما أتيح لغيره تسجيل بعضها الآخر، ومع ذلك فإن كل ما تم تسجيله عن حياته لا يتسع لها لامتدادها، وكثرة أحداثها...
درس في كلية التربية بمكة، ثم لم يلبث أن كُلِّف بتنفيذ برنامج للتوعية الإسلامية فترك الكلية وراح يطوف على الجامعات والمعاهد والمدارس في أنحاء المملكة؛ لإلقاء الدروس والمحاضرات، وتفرغ للفتوى يجيب عن أسئلة الناس في الحرم - في مجلس له هناك - أو في بيته ساعات كل يوم، ثم بدأ برنامجيه: «مسائل ومشكلات» في الإذاعة، و»نور وهداية» في الرائي اللذين قدر لهما أن يكونا أطول البرامج عمراً في تاريخ إذاعة المملكة ورائيها...
ذكر حفيده مجاهد مأمون أن جده الشيخ علي أغلق عليه باب بيته واعتزل الناس إلا قليلاً من المقربين يأتونه في معظم الليالي زائرين، فصار ذلك له مجلساً يطل من خلاله على الدنيا، وصار منتدى أدبياً وعلمياً تبحث فيه مسائل العلم والفقه واللغة والأدب والتاريخ...
وبات الشيخ - في آخر أيامه - ينسى بعضاً من شؤون يومه، فربما صلى الفريضة مرتين يخشى أن يكون نسيها، وربما نسي ما كان في اليوم الذي مضى، ولكن الله أكرمه فحفظ عليه توقد ذهنه ووعاء ذاكرته حتى آخر يوم في حياته...
أتم الله قضاءه فمضى إلى حيث يمضي كل حي، وفاضت روحه -عليها رحمة الله- بعد عِشاء يوم الجمعة، الثالث من ربيع الأول 1420 هـ، الموافق 18 من حزيران، عام 1999م في قسم العناية المركزة بمستشفى الملك فهد بجُدة، ودفن في مقبرة العدل بمكة المكرمة في اليوم التالي بعد ما صُلِّي عليه في الحرم المكي الشريف...