د.محمد بن عبدالرحمن البشر
أبو حيان التوحيدي علم من أعلام الأدب، والفلسفة، والتصوف في علمنا الإسلامي، ولد هذا الأديب في بغداد عام 310 هجرية، أما وفاته فكانت عام 414 هجرية، وقد سبق أن أتينا في مقالات سابقة على طرف من حياته، فقد عاش يتيماً فقيراً حيث كفله عمه الذي أساء معاملته، وبعد أن شب بحث عن مصدر رزق يوفر له قوت يومه، فوجد ضالته في سوق الوراقين، حيث عمل في الوراقة، فأتاحت له مهنته الاطلاع على كثير من كتب اللغة والنحو والأدب والشعر والنقد وغيرها، فكان مثل بائع المسك، لا بد أن تعلق بثيابه رائحة طيبة، وهكذا فقد ترسخت في ذهنه الكثير من المعارف، التي استفاد منها في سعة علمه، وجمال تأليفه، لكنها لم تحقق له طموحه في العيش الكريم، فما كان تعلم اللغة والأدب مدراً للمال، لا من السابق ولا في اللاحق، لكن ولوج هذا الميدان، أتاح له الاتصال بالمتنفذين في عصره، مثل الوزراء المهلبي، وابن العميد والصاحب بن عباد، وأبي عبدالله العارض، وقد أتاحت له بنيته العلمية، في صباه عندما كان يعمل في مجال الوراقة، أن يتتلمذ على علماء كبار مثل أبو سعيد السيرافي البارع في النحو، وعلي بن الرماني، وأبو زكريا يحيا بن عدي المنطقي، الذي علمه الفلسفة، ويبدو أن المنطقي، قد أسس في ذهن هذا الصبي الشاب متوقد الذكاء، القدرة على الاستنباط والجدل، والإبحار في المنطق، فقد اتهم فيما بعد بأنه معتزلي، وزنديق، وغير ذلك من المثالب التي كان يوصف بها من خرج عما كان مألوفاً.
اختلف الأدباء والنقاد في وصفه بالتوحيدي الذي أصبح يسمى به، وهذه الكلمة أيضاً كان لها مالها في بيت شعر للمتنبي، فهناك من يقول إن التوحيد هو اسم لأحد أنواع التمور المنتشر في بغداد، والعراق له شهرة سابقة ولاحقة، بإنتاج التمر وتنوع أصنافه، حتى أنها تعد بالمئات، وقد انتشر بعضها في أرجاء العالم حتى وصلت إلى أقصى الغرب الأمريكي، وزرعت في أودية كلفورنيا بكميات كبيرة، وقد استشهد من أخذ بهذا القول ببيت للمتنبي، حيث يقول فيه:
يَترَشفنَ من فمي رشفاتٍ
هنَّ فيه أحلى من التوحيد
أي من التمر المسمى بالتوحيد، لكن أعداء المتنبي والمتربصين به، قالوا إنه يعني التوحيد المأخوذ من الوحدانية، وهذا فعل الحاقدين في كل زمان ومكان، يفسرون الأمور، ويرسمونها كما يحلو لهم، ويحقق مرادهم، وإشباع رغبتهم بالتلذذ بالحقد، ونجد أن السيوطي، وبعده ابن حجر العسقلاني، قد قالا إن لقبه بالتوحيدي، إنما لكونه معتزلي، والمعتزلة يلقبون أنفسهم بأهل العدل والتوحيد، غير أن ابن خلكان في كتابه وفيات الأعيان، ذكر أنه لم يقف على أي سبب يبرر أن التسمية تعود إلى الاعتزال ومثل هذه الاختلافات تكون قائمة حول المشهورين بالأدب والعلم ونحوها.
مشكلة أبي حيان، أنه غليظ الطبع، غريب المزاج، متذمر يؤوس قنوط، يميل إلى البؤس، لا يرضيه الشيء اليسير، ويبدو أنه يفتقد الرضا، والرضا دواء القلوب، فإذا زال حل الألم والحزن، ولهذا فلم ينل مبتغاه من الوزراء، والحكام، رغم أن عصره عصر كان فيه سوق الأدب والشعر رائجاً، ومعظم الوزراء وذوي الشأن أدباء في ذاتهم، ويقربون العلماء والأدباء والشعراء، ويحبون مسامرتهم ومطارحتهم الفكرية، فكانت مجالسهم عامرة بذلك، والأولى أن يكون أبو حيان من أقرب المقربين لسعة علمه وحفظه واطلاعه.
لقد ألف هذا الأديب الفذ عدة كتب، وصلنا منها اليسير، ومنها كتاب الإمتاع والمؤانسة، وهي عبارة عن رسالة أرسلها أبوحيان إلى صديقه أبي الوفاء المهندس بطلب منه، والذي ساعده في الوصول إلى الوزير أبي عبدالله العارض، سطر له فيها مسامراته مع الوزير، في سبعة وثلاثين ليلة، جمع فيه فلسفة، وأدباً، ونثراً جميلاً، وقصصاً قديمة وحديثة، وشعراً في مختلف أغراضه، سواء المدح، أو الهجاء، أو الوعظ، أو المجون، وبأسلوب راق جميل، وهو مع ذلك يحمل قصصاً، وأقوالاً جديدة لم تذكر في الكتب السابقة، وأصبح مصدراً لها، وسوف نكتب في مقالات لاحقة قطوف من ثمار تلك الليالي الملاح، وكتب كتاباً سماه أخلاق الوزيرين، أو مثالب الوزيرين جمع فيه ما سمع من الوزيرين ابن العميد والصاحب بن عباد، اللذان لم يحسنا إليه، فتشفى غليله منهما في هذا الكتاب، وكتب كتاباً في الصوفية، سماه الإشارات الإلهية، جمع فيه أساليب المناجاة التي كانت وما زالت تقوم بها الصوفية، وهناك كتاب البصائر والذخائر جمع فيه بعضاً مما قرأ وسمع، وكتاب في الفلسفة، مثل المقابسات وغيرها من الكتب المطبوعة والمتاحة، وأخرى لم تصل إلينا.
لم يكن الحكم على ابن حيان التوحيدي سهلاً فيما يخص مذهبه الفكري، لأنه لم يبح بشيء صريح يمكن الاعتماد عليه، لكن كتبه وشت ببعض مما يضمر، وكل يفسرها على هواه، ومنهجه وأخلاقه، فمنهم من كان يلتمس العذر، ويؤول القول إلى الخير ومن أولئك تاج الدين السبكي، العالم والفقيه وصاحب طبقات الشافعية الكبرى، حيث ذكر أن أبا حيان شيخ الصوفية وصاحب كتاب البصائر وغيره من المصنفات في التصوف، أما ابن خلكان فقال عنه إنه كان فاضلاً مصنفاً، وياقوت الحموي، فيقول: هو صوفي السمت والهيئة، فيلسوف الأدباء، وأديب الفلاسفة ومحقق الكلام، ومتكلم المحققين، وإمام البلغاء، لكنه عاد فقال: سخيف اللسان، قليل الرضا عند الإساءة إليه والإحسان، الذم شأنه، والتلف وهو مع ذلك فرد الدنيا الذي لا نظير له ذكاء وفطنة وفصاحة.
أما ابن الجوزي فقال: زنادقة الإسلام ثلاث: ابن الراوندي، وأبو حيان التوحيدي، وأبو العلا المعري، وأشده على الإسلام أبو حيان، لأنهما صرحاء، وهو لم يصرح، أما ابن حجر العسقلاني، فقال إنه صاحب زندقة وانحلال، وبعد أن بلغ التسعين من العمر أحرق كتبه لأنه رآها لم تنفعه في حياته، ومات بائساً بعد أن عمَّر طويلاً.