د. عبدالحق عزوزي
أكد توني بلير، رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، وهو الذي أدخل بلاده في حرب لمساندة أمريكا في العراق وأفغانستان أن التخلي عن أفغانستان وشعبها خطير جدا وغير ضروري، «وليس في مصلحتهم ولا مصلحتنا»؛ كما أن بريطانيا «خارج أوروبا» والتشاور القليل أو عدم التشاور على الإطلاق مع أمريكا بشأن الانسحاب الأمريكي، بقول بلير «يظهر أننا معرضون لخطر الهبوط إلى الدرجة الثانية من القوى العالمية (...) وفي الأخير فإن روسيا والصين وإيران ستستفيد من انسحاب القوى الغربية من أفغانستان...). أقرأ هذا الكلام وأنا أستحضر تلك الفترة التي كان فيها توني بلير وزيرا للوزراء وجورج بوش الابن رئيسا لأمريكا وكيف كانت تتم صياغة القرارات آنذاك...
فالمستشارون المؤهلون في عهد الرئيس بوش (الابن)، كانوا هم المحافظون الجدد، وما زالت سياستهم الخارجية في تلك الفترة وتدخلهم العسكري دون «نظارات استراتيجية» دقيقة، تلقي بفاتورتها الثقيلة على البيت الأبيض والسياسة الخارجية الأمريكية، وعلى مستقبل الأمن القومي؛ فحصل لحد الساعة ارتباك في العمل الاستراتيجي، لأن أعضاء فريق الدبلوماسية والأمن القومي يعملون في مستويات مختلفة، وعندهم أدوار مختلفة في الدولة، والهياكل التنظيمية الهرمية، والجميع بحاجة إلى احترام دوره وعمله، من تخطيط واستراتيجية وسياسة، ليتم التواصل بشكل فعال، ولتبادل المعلومات فيما بينهم، ومع الشعب الأمريكي في نهاية المطاف.
هذا الخلط هو الذي أدى إلى انحراف بعض الأدوار لبعض المؤسسات الأمريكية، وبالتالي إلى ضعف في الإنتاج والمردودية، وهذا هو الجانب الخفي في بعض التقارير الأمريكية، وهذا ما تحذر منه نظريات الاستراتيجية في مجال العلاقات الدولية، وهذا يحيلنا هنا إلى دراسة دور المستشارين في صياغة الاستراتيجية. والسياسة الأمريكية مليئة بالدروس في هذا الجانب.
إن الأجهزة التنفيذية مصطلح إداري يُعنى به مختلف الوزارات، والإدارات التابعة لها، والمجالس الوطنية، وغيرها من المؤسسات التي تشكل مجتمعة الهيكل الإداري للدولة، وتقوم بأداء مهامها الدستورية تحت إمرة رئيس البلاد، بوصفه رئيس السلطة التنفيذية، ورئيس الدولة، كما هو الشأن في الولايات المتحدة الأمريكية، وفي فرنسا، وغيرهما من الدول. وهذه المنظومة مجتمعة تنطوي على صعوبة كبيرة؛ ففي العلاقات الخارجية مثلاً، وفي شأن الأمن القومي، لا بد لممارسي هذه الأمور -وفي بيئة دولية معقدة- من تبني منظور شامل للأشياء، وهنا يكون دور الأشخاص مهماً جداً، وغالباً ما تظهر قيمتهم، أو محدوديتهم، عند الأحداث السياسية الكبرى.
فكثير من المراقبين مثلاً، كانوا يظنون أن وزير الدفاع الأمريكي السابق دونالد رامسفيلد، كان رجلًا محدوداً، بسبب قيادته ورؤيته لدور الدفاع، وعلى رأس هؤلاء: المراقبون العسكريون، والقوات العسكرية، ولكن سرعان ما كشفت الوقائع، خاصة بعد أحداث 11 سبتمبر 2011، صلابة رامسفيلد، وفظاظته، ونوعية فكره الاستراتيجي. ونتذكر جميعاً نوعية الفكر المحدد للمحافظين الجدد في إدارة بوش الابن الأولى، التي غيّرت تيار النظام الدولي، خاصة في الشرق الأوسط.
إن السمات الأربع للبنية الاستراتيجية الحديثة: التقلب، والتوجس، والتعقيد، والغموض، تدفع الرؤساء في أمريكا إلى تبني آليات متعددة لاتخاذ القرار. ويلعب المستشارون دوراً كبيراً في هذا المجال. فإذا بقينا في مثال الولايات المتحدة الأمريكية، وفي سياستها الخارجية، نتذكر البون الشاسع في التفكير والتنظيم بين كولن باول وزير الخارجية في عهد بوش الابن، ووزير الدفاع رامسفيلد. ونعلم هنا أن وزارة الخارجية والدفاع الأمريكيتين مرتبطتان بالقوة العسكرية، فالتفوق والقوة العسكرية، يعطيان الهبَّة اللازمة للدبلوماسية الأمريكية، وهذه الأخيرة تحاور القوة العسكرية، لتخرج بنجاح سياسي؛ فكولن باول كان يرفض التدخل العسكري دون شرعية أممية، إلا أن الكلمة الأخيرة كانت لرامسفيلد، ولحد الساعة ما زالت تثار في كواليس الأجهزة الدبلوماسية والعسكرية الأمريكية، مسألة تحديد المسؤول المخطئ في الفشل الحالي في إرساء الاستقرار في عدة مناطق كأفغانستان والعراق.
إن كل متتبع للسياسة الخارجية والداخلية الأمريكية، يخرج بنتيجة ذات مغزى كبير، هي أنه عندما يتكئ الرئيس الأمريكي على زمرة من المستشارين الموثوق بهم فقط، فإن ذلك يكون مطية لنشوء ظاهرة التفكير الجماعي الأحادي، والمشكلة هنا أن ثقة الرئيس اللامتناهية بهؤلاء المستشارين، غالباً ما تكون نتيجة للتشابه والتناغم في العقليات بين أفراد المجموعة، وأعني بذلك الأيديولوجيا السياسية، والنظرة إلى النظام الداخلي وإلى العالم، والنتيجة النهائية هي أن الرئيس غالباً ما يسمع ما يعرفه مسبقاً، ويعيه جيداً، ويؤمن به أشد الإيمان، فتحصر بذلك صناعة القرار مركزياً في قمة هرم الدولة. فتبقى المعرفة الحقيقية عند المستويات الدنيا من النظام الهيكلي للدولة، أو عند أناس لهم باع في الفهم، والتفكير، والتخطيط، والتنظير، هم أولى بالاستشارة من المستشارين الحاليين.