أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: كتبت مقالاً في مجلة اليمامة ذكرت في فاتحته أن عالمين جليلين أحدهما في مقام الأبوة, والثاني في مقام البنوة كتبا إليَّ حول إطلاق لفظ (شيخ الإسلام) على بعض العلماء؛ فالأول الشيخ العالم الزاهد الورع (سعد الحصين) رحمه الله تعالى قد وافته المنية في يوم الخميس الموافق 3 - 3 - 1436 هجرياً, والثاني محب الجميع أخي الشيخ المبجل الأستاذ الدكتور (محمد بن فهد الفريح) عضو هيئة التدريس بالمعهد العالي للقضاء الذي ما زال يتكرم بإهدائي ما يؤلفه من الكتب والرسائل, ومنها ما صدر مؤخراً حول موضوع يهم المسلمين, وعنوانه (توجيهات شرعية في زمن الوباء) جاء فيه بالنصيحة من كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وعلماء السلف الصالح, وقد جعله في توجيهات ثمانية.. التوجيه الأول الإيمان بالله والقيام بحقه فيه، واشتمل على خمسة أمور: أولها الإيمان بقضاء الله وقدره, ومعرفة أن كل شيء بقضائه سبحانه, فالأمر كله لله, والخلق كلهم تحت قدرته ومشيئته , فما شاء كان, وما لم يشأ لم يكن, قال سبحانه: {قُلْ مَن ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُم مِّنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} (17) سورة الأحزاب؛ فهذه الأوبئة التي يرسلها الله على عباده, هي من قدر الله وحكمه النافذ, قال سبحانه: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (22) سورة الحديد, والمسلم يعلم أن هذه الأوبئة لا تنتقل من مريض إلى صحيح بطبعها, ولا تلحق الضرر بذاتها دون تقدير الله, فالله هو مسبب الأسباب, فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا عدوى ولا طيرة» متفق عليه.. وثانيها الصبر على قضاء الله وقدره؛ فالمسلم ألا يجزع من هذا الوباء النازل, ولا يتسخط ولا يسب ولا يشتم؛ بل يصبر على المصائب وآثارها, وعلى ما قضاه الله عليه, فإن جزعه وتسخطه لا يدفع القضاء, ولا يزيل الوباء, بل يجلب الإثم, ويوقع في الذنب, (فمن رضي فله الرضا, ومن سخط فله السخط).. وثالثها التوكل على الله كما أمر بذلك, فقال سبحانه وتعالى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ}, {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}، ومن التوكل عمل الأسباب المباحة التي تدافع الوباء, أو تقلل منه..رابعها حسن الظن بالله, يقول الله عز وجل: «أنا عند ظن عبدي بي» متفق عليه, ومن رزق حسن الظن بالله فقد رزق الراحة, ومن أحسن عمله حسن بالله ظنه, ورحمة الله سبقت غضبه, والله بالمؤمنين رؤوف رحيم, قال أبو قدامة الرملي رحمه الله: قرأ رجل هذه الآية: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا} (58) سورة الفرقان، فأقبل علي سليمان الخواص رحمه الله، فقال: يا أبا قدامة، ما ينبغي لعبد بعد هذه الآية أن يلجأ إلى أحد غير الله في أمره. ثم قال: انظر كيف قال الله تبارك وتعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ}، فأعلمك أنه لا يموت، وأن جميع خلقه يموتون، ثم أمرك بعبادته، فقال: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ}، ثم أخبرك بأنه خبير بصير.. ثم قال: والله يا أبا قدامة، لو عامل عبد الله بحسن التوكل، وصدق النية له بطاعته؛ لاحتاجت إليه الأمراء فمن دونهم، فكيف يكون هذا محتاجًا، وموئله وملجؤه إلى الغني الحميد؟!.. وخامسها الحذر من كل ما يخل بالتوحيد, وينقصه, فالمسلم يبتعد عن كل ما ينقص توحيده, ويضعف إيمانه, ويمنع إجابة دعائه.. ويتنبه المسلم إلى أمر خطير هو القنوط من رحمة الله, واليأس من روحه سبحانه, قال الله تعالى: {إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} (87) سورة يوسف, قال ابن كثير رحمه الله: ((فإنه لا يقطع الرجاء، ويقطع الإياس من الله إلا القوم الكافرون)).. وأما التوجيه الثاني؛ فهو التأمل في عظيم قدرة الله وضعف الناس, فقد ظهر ضعف الإنسان, وبان عجزه أمام هذه الأوبئة التي هي من أمر الله.. والتوجيه الثالث: الحذر من الشائعات, والبعد عن القيل والقال, روى مسلم في مقدمة صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كفى بالمرء كذبًا أن يحدث بكل ما سمع».. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «بحسب المرء من الكذب أن يحدث بكل ما سمع»؛ فالمسلم يحذر أن يكون عوناً لأهل الشائعات, ومتعاوناً مع أهل الأخبار الكاذبة, ومساعداً على الإرجاف بها, بل عليه أن يبتعد عما كرهه الله له, فقد قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله كره لكم ثلاثًا: قيل وقال...» الحديث متفق عليه.. ويظهر ذلك جلياً وقت الوباء والابتلاء, وزمن المصائب العامة, مما يجعل الأخبار تكثر حولها, مع سهولة تناقلها, ويسر انتشارها, وتطلع الناسإليها.. والتوجيه الرابع: السمع والطاعة لولي الأمر فيما أحب المرء أو كره, قال الإمام ابن تيمية رحمه الله: ((يجب أن يعرف أن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين؛ بل لا قيام للدين ولا للدنيا إلا بها، فإن بني آدم لا تتم مصلحتهم إلا بالاجتماع لحاجة بعضهم إلى بعض, ولا بد لهم عند الاجتماع من رأس)), جاء في الصحيحين أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب أو كره إلا أن يؤمر بمعصية؛ فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة», وفي زمن الوباء تكثر الأراجيف, ويخرج بعض أهله؛ ليضربوا هذا الأصل, ويثربوا على القرارات والتوجيهات التي اتخذها ولي الأمر للمصلحة.. والتوجيه الخامس: المبادرة بالتوبة؛ ففي زمن الأوبئة تتأكد التوبة إلى الله, والبعد عن أسباب سخطه, وأليم عقابه, والإكثار من الاستغفار؛ فهذا الوباء الذي خلقه وقدره هو الله, وهو وحده القادر على كشفه, وما نزل بلاء إلا بذنب, ويرفعه الله بالتوبة, ويعفو سبحانه عن كثير، وفي ظهور هذا الوباء الذي يمر بالعالم, والذي يسمى بفيروس (كورونا) وتحولاته ينبغي على المسلمين وعلى غيرهم, الإقبال على الله قياماً بأوامره, وانتهاءً عن حرماته, ووقوفاً عند حدوده, مع توبة نصوح, وبعد عن موجبات سخط الجبار.. والتوجيه السادس: الإقبال على الله بالعبادة, وقد ضرب الدكتور (الفريح) حفظه الله تعالى أمثلة مما يستحب الإكثار منها كنوافل الصلاة وقراءة القرآن, ولذا المقبل على ربه لا تله الدنيا وأوبئتها عن الطاعة والعبادة.. والتوجيه السابع: المحافظة على الأوراد الشرعية, وكثرة ذكر الله, شرع الله لعباده أذكاراً تتقوى بها قلوبهم, وأوراداً يتحصنون بها, وقد بين رسول الله لأمته في هذا الباب كل خير, وأوضح لهم جوامع الأذكار والأوراد, ودلهم على أوراد يقولونها بالليل والنهار فعلى المسلم أن يتمسك بها, ففيها من توحيد الله, والافتقار إليه, وطلب العافية, وسؤال السلامة ما لا مزيد عليه, وهي عمل صالح, واشتملت على فضل وثواب لا يحصيه إلا الله.. والتوجيه الثامن: دعاء الله والتضرع له سبحانه, فهو أعظم العبادات, وأجل القربات, وربنا سبحانه يريد منا أن ندعوه, ونتضرع إليه, والله حيي كريم, يستحيي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفراً, وخزائن الرحمن لا تنقصها عطاياه للمخلوقين.
قال أبو عبدالرحمن: لقد أجاد الشيخ (محمد الفريح) حفظه الله تعالى في إيراده أدعية عظيمة, وأوراداً جليلة ثابتة عن رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام؛ فشكر الله لصاحبنا وصديقنا جهده في هذه الرسالة القيمة المشتملة على توجيهات شرعية عظيمة, وأدعو إخواني لقراءتها وتفهمها والنظر فيها سائلاً الله سبحانه وتعالى أن يكشف الوباء، ويصلح أحوال المسلمين، وإلى لقاء قادم إن شاء الله تعالى، والله المستعان.
** **
كتبه لكم: أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري - (محمد بن عمر بن عبدالرحمن العقيل) - عفا الله عني، وعنهم، وعن جميع إخواني المسلمين -