د. تنيضب الفايدي
يطلق على الجزء الجنوبي من المدينة المنورة اسم (عالية المدينة)، تبعد عن المسجد النبوي ما بين (3-5) كم، وأصبحت الآن داخل المدينة وتتصل العالية بقباء فيشكلان واحة واحدة من أشجار النخيل والريحان والورد والنعناع. وقد ذُكر العوالي في الحديث، فعن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي العصر والشمسُ مرتفعة حية، فيذهب الذاهب إلى العوالي فيأتيها والشمس مرتفعة. وعندما تخرج من المدينة القديمة وتقترب منها (قبل أربعين عاماً) تشعر ببرودة الهواء صيفاً وتتنعم بأريج أنواع الزهور، ومنطقة العالية وقباء يعتبران منطقة واحدة وتضمّ مجموعة كبيرة من المواقع التي لها ارتباط بسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، سواءً كانت مساجد أو آبار أو أودية، فمن المساجد مسجد قباء ومسجد الفضيخ (الشمس) ومسجد غزوة بني قريظة، ومسجد مشربة أم إبراهيم، كما تضمّ جزءاً مما أطلق عليه لاحقاً آبار النبي صلى الله عليه وسلم مثل: بئر العهن، بئر غرس، بئر أريس (الخاتم). وتضمّ العوالي وقباء أيضاً مجموعة من الأودية مثل وادي الرانوناء، ووادي بطحان، ووادي مهزور، ووادي مذينيب، وأم عشر. وكانت هناك عدة قرى منفصلة مثل: قباء، جِفَاف، قربان، وأصبحت هذه المعالم التي تجمعها -العوالي وقباء- ذكريات ثرّة عندما تتحدث عنها أو عن واحدة منها تأتيك الكلمات تترى، وتحرك مشاعرك، ولا تدري بأيها تبدأ:
يُحرِّكُنَا ذكرُ الأحاديثِ عَنْهُمُ
ولولا هَوَاهُم في الحشَا ما تحرَّكْنَا
ولولا مَعَانِيهم تَراها قُلُوبُنا
إذا نحن أيقاظٌ، وفي النَّوْمِ إن نمْنا
ويطلق على عالية المدينة حالياً العوالي ولازالت متصلة بقباء إلا أن الشوارع بدأت تفصلها، وكم للكاتب من ذكريات فيهما:
إذا كنتُ في أرض العوالي تَشَوَّقَت
لأرض قبا نفسي، وفيها المؤمَّلُ
ولو كنتُ فيها قالت النفسُ: ليتَ لي
بأرض العوالي يا خليلي منـزلُ
فيا ليتَ أنّي كنتَ شخصين فيهما
وما (ليتَ) في التحقيق إلا تعلّل
ويتذكر الكاتب دائماً من أحبّ بقاع المدينة، يقول في نفسه:
فَغَرَامِي القَدِيمُ فِيكُمْ غَرَامِي
وَوِدَادِي كما عَهِدتُمْ وِدَادِي
قدْ سَكَنْتُمْ مِنَ الفُؤَادِ سُوَيْدَا
هُ وَمِنْ مُقْلَتِي سَوَاءَ السَّوَادِ
وعادةً يطلق اسم العوالي على قرية في شرقي قباء وسط النخيل، وتطلق العالية على الحدائق والبساتين التي تنتشر على أرضها، ويعرّف أحد المؤرخين العالية بأنها رياضٌ مخضلّة الرُّبى، وغِياضٌ معتلّة الصَّبا، بها النخيل الباسقة، والأشجار المتناسقة، والأغصان التي تتناوح عليها الأطيار، وتتباكى في روضها الأمطار. وكانت الآبار ببساتين العالية غزيرة الماء تدفعه المكائن إلى قناطر متعددة داخل البساتين، وتمتزج أصوات الطيور بخرير الماء مع حسن مناظر النخيل وبقية الأشجار التي تتشابك أغصانها ويصدر عن كل ذلك عبيرٌ يجعل النفس كأنها تعيش في نعيم دائم. وفي ظلِّها تتعدد الأزهار مثل الورد وزهر النرجس وأنواع متعددة من النعناع ومنه النمّام (وهو نوعٌ من نعناع المدينة يعمل كالشاي أو مع الشاي، ولكثرة الأزهار جعل أحد الشعراء طرف النرجس كأنه عين ترى، وجعل النمّام كأنه شخصٌ يخبر بما يحدث بين المحبين:
أقول وطرفُ النرجس الغضّ شاخصٌ
إليَّ وللنمَّام حولي إلمامُ
أيا ربُّ حتَّى في الحدائق أعينٌ
علينا وحتّى في الرياحين نمَّامُ
وقد تذكّر الشعراء العوالي حيث قال:
لي بأكناف طيبةَ بينَ سَلْع
والعوالي مسامرٌ وشجونُ
وحبيبٌ إذا تألّق برقٌ
من سَنَا أرضه تفيضُ العيونُ
يا أهيلَ الحِمى وبانِ المصَلَّى
وقبابِ النقا بكم أستعين
وذكرت العوالي صريحة في الأبيات التالية قال الشاعر:
سقى الله في أرض العوالي منازِهاً
قطعتُ بها دهراً لذيذاً من العُمْرِ
دَرَتْ أنني قد جئتُها متنـزِّهاً
فمدَّتْ لتلقائي بساطاً من الزَّهْر
وفيها لقد رقّ النسيم وحيثما
ذهبتُ وجدتُ الماءَ في خدمتي يجري
وكرر الشعراء حبهم لعالية المدينة (العوالي) كثيراً.
فضلُ العوالي بيّنٌ ولأهلها
فضلُ قديم، نورُه يتهلّلُ
من لم يقلْ إن الفضيلة طنَّبتْ
أرض العوالي؟! وهو حقٌّ يُقْبلُ
إني قضيتُ بفضلِها، وأقول في
وادي قُبا : الفضل الذي لا يُجْهلُ
وقال:
أراك تغالي في العوالي وفي قبا
وأنت على وهم الخيال تعوِّلُ
إلى كمْ تُرى تهوى الذي أنتَ سائرٌ
إلى غيره، إذ أنتَ عنه تحوّلُ
فكن سائراً في لا مقام فإنما
تقلّب من شأنٍ لشأن ترحّل
وقد بدأ محبّكم (الكاتب) يرصد بعض تاريخ الجواهر التي سبق ذكرها؛ لأن جزءاً من عمره مضى متنقلاً بين جَنَبَاتِها:
مواطنُ أفراحِي ومَرْبَى مآرِبِي
وأطوارُ أوْطارِي ومأمنُ خِيفَتِي
وثَمَّ وراءِ القولِ سِرٌّ كَتَمْتُهُ
فَلَوْ قِيلَ: صرِّحْ، قُلْتُ: يا نفسُ، اصْمتي