د.عبدالرحيم محمود جاموس
في أبريل من عام 1973م توقفت طائرة وزير الخارجية الأمريكية الأسبق هنري كيسنجر في كراتشي، وهو في طريقه إلى زيارة بيجين (بكين)، بعد جولة له آنذاك شملت كلاً من العواصم التالية: القاهرة ثم عمان والرياض والكويت وطهران فكراتشي،... حيث عقد فيها مؤتمرا صحافيا.. وكان أهم سؤالين قد وجها له من قبل الصحفيين هما: الأول ما الجديد في موضوع ملف التسوية والسلام في الشرق الأوسط وما مصير الصراع العربي الإسرائيلي...؟ كان الجواب على هذا السؤال عميقاً تمثل في (لا يمكن فتح هذا الملف إلا في أجواء ساخنة).. والسؤال الثاني كان لماذا لم تتوقف طائرة وزير الخارجية الأمريكية في كابول عاصمة أفغانستان؟ وكان جوابه أيضا يَنمُ عن خبثٍ ديبلوماسي خطير قال: (العاصمة كابول لا تستهوي السائح)، وقائع هذا المؤتمر الصحفي قد نشرت حينها في مجلة النيوز ويك الأمريكية... وقد اشتملت على مواضيع أخرى وخاصة عن العلاقات الصينية الأمريكية، وكانت هذه التصريحات محل دراسة لي ولبعض الزملاء وقتذاك.
ما يهمنا هنا في هذا المقام هو السؤالان وتلكما الإجابتان الديبلوماسيتان المشار إليهما أعلاه..!
هل كان وزير الخارجية الأمريكية فعليا في رحلة سياحية حول العالم ولتلك العواصم...؟ طبعا الجواب بالتأكيد لا...
لقد كان في جولة سياسية ديبلوماسية هامة وكبيرة في خدمة المصالح الأمريكية شرق أوسطيا وآسيويا، والعمل على تطوير وترتيب العلاقات الأمريكية مع عواصم الدول التي قام بزيارتها والتي ينوي زيارتها، السؤال الأهم هو كيف فسرت وفهمت هذه التصريحات من قبل المعنيين بها والمراقبين السياسيين في حينه، خصوصاً وأنه لم تمض سوى شهور قليلة حتى تم الإطاحة بعدها بحكم الملك محمد داوود شاه، ملك أفغانستان في سبتمبر من عام 1973م، لتدخل بعدها دولة أفغانستان في دوامة من العنف وعدم الاستقرار السياسي والصراع على السلطة والحروب الداخلية والخارجية التي قد بدأت ولم تنته بعد، فقد باتت بعدها أفغانستان مسرحاً وساحة خصبة لحروب أهلية، وساحة لصراعات القوى الإقليمية والدولية.
لقد فهم تصريح كيسنجر عن كابول أنها (لا تستهوي السائح) بمثابة تخلٍ أمريكي عن دعم نظام الحكم فيها، واعتبارها منطقة أو دولة لا يهم الولايات المتحدة شأنها وأمرها ومصيرها، مما فتح شهية القوى الداخلية من الطامعين بالسلطة إلى الإطاحة بنظام الحكم الملكي فيها آنذاك، كما فتح شهية القوى الإقليمية والدولية... خاصة الاتحاد السوفياتي للسعي للتدخل في شؤونها والهيمنة عليها وعلى قرارها واخضاعها لنفوذه.. فتتالت فيها الانقلابات العسكرية إلى أن جاء التدخل العسكري السوفياتي المباشر فيها لحماية نظام بابرك كرميل الشيوعي ومن بعده نجيب الرحمن...، وكان ما كان من سقوط الروس في الفخ الأفغاني والمستنقع الذي شكل أحد أهم الأسباب في هزيمة السوفيات في الحرب الباردة مع الولايات المتحدة.
وهنا لم أغفل الإشارة إلى وقوع حرب أكتوبر 1973م بعد ستة أشهر على تصريح كيسنجر، التي فتحت بالفعل ملف السلام والتسويات (للصراع العربي الإسرائيلي).. والذي وصل إلى ما وصل إليه من اتفاقات وانهيارات سياسية ديبلوماسية.
عودة إلى الموضوع الأفغاني، الذي لم يبقَ لا يستهوى فقط السائح الأمريكي السياحة في كابول حسب تعبير كيسنجر، بل تورطت فيها العسكرية الأمريكية في احتلال عسكري دام عشرين عاما ونصف، بعد وإثرَ اتهام تنظيم القاعدة وحاضنتها نظام حركة طالبان في أفغانستان، في حادث تفجير برجي التجارة العالمية في نيويورك في 11/9/2001م، تحت شعار التحالف لمحاربة الإرهاب الإسلامي، لينتهي هذا التورط بتوقيع اتفاق سلام أمريكي مع الإمارة الإسلامية، تنسحب بموجبه القوات الأمريكية والحليفة لها من أفغانستان، ويجري التخلي الأمريكي عن الحكومة الأفغانية ومؤسساتها الأمنية والعسكرية، التي تمت صناعتها وصياغتها على يد القوات الأمريكية الغازية، مقابل أن تتعهد طالبان بعدم الإضرار بالمصالح الأمريكية، ولتعود أفغانستان ثانية إلى ما كانت عليه قبل الغزو تحت السيطرةِ الكاملة لحركة طالبان الإسلامية...!
إذاً هل تعود السياسة الأمريكية بموجب الاتفاق الموقع مع طالبان ثانية إلى اعتماد سياسة كيسنجر كون كابول (لا تستهوي السائح الأمريكي...) والتعاطي مع الشأن الأفغاني عن بعد دون التورط والغرق في مستنقعه وتتركه لمن يشاء الغوص فيه ثانية، بعد أن جربت واكتوت أمريكا نفسها بناره وغرقت في مياهه، كما اكتوى من قبلها السوفيات وغيرهم، والعودة ثانية إلى التزام واعتماد سياسة الاستخدام للمقاتلين الأفغان في صراعاتها مع الخصوم المقبلين (الصين وروسيا وإيران) كما استخدموا سابقاً في الفترة السوفياتية، لتحقيق أهداف وغايات استراتيجية أكثر جدوى وأهمية من مقاتلة الأفغان أنفسهم؟! الأيام والشهور القادمة سوف تفصح عن ذلك.
السؤال الأهم الذي لم يعد يهُم أمريكا ولا الكثيرين غيرها، هو مستقبل ومصير أفغانستان وشعبها في ظل حكم حركة طالبان من جديد، وما يمكن أن يتمخض عنه من حروب وصراعات داخلية وأهلية، عرقية واثنية وصراع على السلطة من جهة، والتحديات الخارجية مع دول الجوار الست لأفغانستان من جهة أخرى.
هكذا تترك أفغانستان لوحدها لتقلعَ شوكها بعد أن اثخنتها الحروب ودوامة الصراع على السلطة، كأن الشعب الأفغاني ومنذ الإطاحة بنظام الحكم الملكي فيه في سبتمبر من عام 1973م، قد كتب عليه الشقاء وأن يدخل في دوامة الحروب، وعدم الاستقرار والتنازع على السلطة، وأن تبقى أفغانستان ساحةً وضحيةً للصراعات الإقليمية والدولية، يجب وضع حدٍ لهذه المأساة الأفغانية المستمرة منذ نصف قرن.
من حق الشعب الأفغاني أن يقرر مصيره بنفسه وبحرية، وأن يختار حكامه وممثليه، وأن يبني دولته التي يريد، دون ضغط أو تدخل من القوى الخارجية، وبما يحقق تطلعاته في الحرية والعيش الكريم والتقدم والازدهار، بعيداً عن كل أشكال التخلف والحروب الخارجية والداخلية، وعن الإرهاب بكل أنواعه وأشكاله.
الأيام والشهور القادمة ستكشف عما يخبأ لأفغانستان وشعبها العظيم من مستقبل.