العقيد م. محمد بن فراج الشهري
شهدت السنوات الأخيرة انحداراً غير مسبوق في السياسات الأوروبية والأمريكية بشكل خاص، ولم تنجح أغلب الخطط والإستراتيجيات التي اتبعتها هذه الدول في السنوات الأخيرة من هذا القرن، وما خلفته تلك السياسات من مشاكل وقلاقل جعلتهم يكتوون بنار هم من أشعلها ورتب لها، فهم من صنع أغلب جماعات الإرهاب، وهم من صدر العنف ورواده، وهم من جعل العالم في ثورات وتقلبات مستمرة، وهم من صنع القاعدة، وهم من دعم جماعات الإخوان الشياطين، وهم من ابتكر داعش، وهم من رتب للربيع العربي وما تبعه من أحداث وكوارث طالتهم مع من طالته من الدول الأخرى، هم من اقتحم العراق وفتح الأبواب لإيران لتدخل إليه من طرق متعددة وهم من جعل سوريا لا تعرف قراراً حتى الآن، وهم من صنع الحوثي ودعمه، وهم من اخترع طالبان وما أدراك ما طالبان.. وما يحدث الآن من تداعيات في العالم كله ما هي إلا نتاج خبث وتعامل الدول الأوروبية وأمها أمريكا ومن معهم بوتيرة أقل الصين وروسيا.. إلا أن الأحداث الأخيرة التي وقعت على الساحة الأفغانية كشفت الغطاء بالكامل عن النهج الأمريكي وغير المبرر ولا مفهوم.. وهو ما ينذر كثير من الحلفاء بأن أمريكا لا أمان لها وأنها تتلاعب بأعصاب الدول المتحالفة معها بهذه الطريقة وهذا الأسلوب وهذه السياسة التي خرجت بها منذ عهد بوش وحتى عهد بايدن وها هي الآن تلملم أوراقها، وأسلحتها، وجنودها وتأخذ في الخروج من أفغانستان في مشهد ليس جديداً على التاريخ الأمريكي بعد الحرب العالمية الثانية. ومن المعلوم أن أمريكا دخلت إلى أوروبا خلال الحرب العالمية الأولى ثم خرجت بعدها، وحتى بعد النصر فإنها لم تكُن على استعداد لتلافي حرب أخرى بالدخول إلى عصبة الأمم، وكان الثمن دخول حرب عالمية بعد عشرين عاماً، وما أن جاء النصر حتى قررت أمريكا في تلك المرَّة أن تبقى عسكرياً في أوروبا واليابان، وبعد ذلك في كوريا الجنوبية، إضافة إلى بحار العالم ومحيطاته. وذلك لم يكن كل شيء، فكما شهد العالم الإقبال الأمريكي فقد عرف أيضاً (الافول) الذي يحل على أمريكا ويدفعها إلى الانسحاب الذي جاء بعد سنوات من الحرب في فيتنام، ومشهد الأمريكيين والعاملين معهم من العالقين في طائرات الهليوكوبتر وهي تطير على سطح السفارة الأمريكية في «سايغون» التي صارت مدينة «هوشي منّه» بعد وحدة فيتنام الشمالية مع الجنوبية، ظل دائماً عالقاً في الذاكرة الأمريكية وربما كان هو المشهد الذي أرادلرئيس الأمريكي جون بايدن تجنبه لكن كان بصورة مذلة لأمريكا وهيبتها وحلفائها من الغرب، ولم تكن فيتنام هي الوحيدة في الذاكرة الأمريكية، فالحرب الكورية انتهت بمولد كوريا الشمالية الشيوعية، والباقية حتى اليوم، أما حرب أمريكا في العراق فقد انتهت بالطريقة التي انتهت إليها أفغانستان، هذه المرّة لم يكن الخروج منصباً على الانسحاب العسكري من دولة جرى الوجود فيها والاحتلال، وإنما على فشل في النموذج الديمقراطي الليبرالي الأمريكي ذاته، فبعد نهاية الحرب الباردة بدأ كما لو أن النموذج قد انتصر، ودخلت دول كثيرة إلى دائرة النموذج أفواجاً، ولكن السنوات الخمس الأخيرة، أخذ النموذج في التراجع عالمياً، والمدهش محلياً داخل الولايات المتحدة ذاته. وما حدث في الانتخابات الأمريكية الأخيرة التي أتت بالسيد بايدن كشفت المستور بالنسبة لقضية الديمقراطية والليبرالية الأمريكية، وهي قضية العنصرية المثارة في الولايات المتحدة بشدة خلال الأعوام الماضية، فمن المعروف تاريخياً أولاً أن أمريكا رغم إعلان استقلالها تقول بالمساواة الأمريكية، فإن الدستور الأمريكي أقر مؤسسة العبودية، وما حدث من كوارث داخل أمريكا في السنوات الأخيرة ما هو إلا نتاج سياسة متقلبة غامضة وفضة في بعض الأحيان، وما يحدث الآن وكأن الخروج الأمريكي من أفغانستان يمثل خروجاً للولايات المتحدة من العالم فإنه لا يبدوا مقتصراً على الوجود العسكري وإنما يشمل ربما ما هو أكثر أهمية والمتعلق بالرسالة إلى العالم والحلفاء بشكل خاص وكل ما حدث ويحدث من مظاهر عودة الزمن الأصولي إلى الشوق الأوسط دولاً ومجتمعات، أفراداً أو مؤسسات ما هو إلا نتاج انحياز اليسار الليبرالي الغربي للتحالف مع كل الأصوليين في المنطقة، وبعد فشل هذا التحالف إبان ما كان يعرف بـ(الربيع العربي) فالمفاوضات مع النظام الأصولي الإيراني على قدم وساق في فينّا، والتفاوض المتساهل مع مليشيات الحوثي في اليمن قائم، ورفع تصنيفها إرهابية سياسة معلنة، مع الضغوط على الشرعية اليمنية وحلفائها لتخفيف مواجهة تلك المليشيات الأصولية الإرهابية، والتساهل الواضح مع «مليشيات إيران الأصولية» في العراق، وسوريا، ولبنان، كلها مجتمعة مؤشرات صارخة على انتعاش الأصولية وعودة الزمن الأصولي.. والانسحاب الأمريكي المفاجئ والسريع لأمريكا من أفغانستان منح الفرصة القوية لحركة (طالبان) للعودة بقوة، وإن دار في الأفق شيء عن أسباب هذالانسحاب وإن ذلك ناتج عن طبخة تم إعدادها في الدوحة تم فيها (بيع وشراء) بين أمريكا وطالبان، إلا أن خروجها كان مهيناً وانحداراً من القمة إلى أسفلها في نظر كل دول العالم وإنذار لحفاء الولايات المتحدة بأن لا ثقة في أمريكا وأن التزاماتها سرعان ما تتبدل في أي لحظة، ومعها الدول الغربية فرنسا، وبريطانيا، وألمانيا، فهل ما حصل في أفغانستان إنذار للحلفاء لأخذ الحيطة والحذر من التقلبات في المزاج الأمريكي المترنح في السنوات الأخيرة وهل ذلك دليل واضح على السقوط من القمم في زمان تسعى فيه الصين والروس لاعتلاء هذه القمم وإزاحة أمريكا ودول أوروبا وبكل قوة ؟ هذا ما سنراه في السنوات القادمة لمن تتاح له الفرصة متابعة تلك الأحداث وما سيجري رأيي أن الشيء الذي مكن طالبان مما حققته حتى الآن هو عدم مشاهدتها لأفلام هوليود والقوة المزعومة, وانشغالهم بما هو أهم من تلك البروباغاندا Propaganda الهولودية والأيام ستظهر ما خفي قريبًا لأن الإعلام العالمي والسوشل ميديا أصبحت (فاغرة) تلقف كل خبر مُعلن أو غير مُعلن كما هو قول الشاعر العربي: «ستُبْدي لكَ الأيّامُ ما كنتَ جاهلاً ويأتِيكَ بالأخبارِ مَن لم تُزَوِّدِ» ودمتم سالمين.