عبدالوهاب الفايز
بعد انهيار جدار برلين الشهير في عام 1989 أسرع قادة المعسكر الغربي إلى الجزم بالانتصار النهائي للنظام الرأسمالي في كل المجالات وبظهور النظام العالمي الجديد. ومن الذين جزموا أن التاريخ وصل نهايته الأمريكي فرانسس فوكوياما الذي رأى في كتابه (نهاية التاريخ) أن العالم يشهد انتهاء التاريخ وأن الديموقراطية الليبرالية انتصرت بصورة لا رجعة فيها، وكان يتنبأ بشيء من الإسراف والثقة بنهاية تطور الإنسانية ديمقراطيًا وأيديولوجيًا، كما هي في العالم الغربي، سيكون الشكل النهائي للحكم على مستوى العالم.
فوكوياما، بعد الأزمات المالية المتلاحقة وبروز الشعبوية السياسية، يبدو أنه وصل إلى القناعة أن التاريخ الإنساني سوف يتجاوز الديموقراطية الليبرالية إلى صيغة جديدة للحكم والتعايش بعد اتضاح المخاطر التي جلبتها الرأسمالية المتوحشة إلى عالمنا الحالي، فإذا الاشتراكية وآلية الاقتصاد المركزي المخطط من الدولة ثبت فشلها لأنها قيدت الحريات وأوجدت البيئة لنمو المشاكل الاجتماعية المهددة لوضع الطبقة الوسطى المنتجة اقتصاديًا ومرتكز الاستقرار السياسي للدول. قيادات الرأسمالية السياسية والاقتصادية الآن تترسخ قناعتهم حول تعثرها نتيجة تطرف السياسات الليبرالية الجديدة التي أطلقت الحريات بدون قيود، وأوجدت رأسمالية الاحتكار والمحسوبية عبر برامج التخصيص، وأبعدت الدولة عن إدارة الاقتصاد.
بدعوة من مجلة (الايكونومست، 18 أغسطس) للتعليق على انهيار النظام الأفغاني كتب فوكوياما مقالاً مطولاً بدى فيه أكثر قناعة ووضوحاً وتراجعاً عن نظريته حول (نهاية التاريخ)، وسبق أن أبدى تراجعه في حوارات ولقاءات سابقة، إلا أنه هذه المرة طرح رأيه الصريح في أحد منابر الدفاع عن الليبرالية الاقتصادية الجديدة، وعن الديمقراطية الغربية.
فوكوياما يرى أن الصور المروعة لأفغان يائسين يحاولون الخروج من كابول تأخذنا إلى (منعطف رئيسي في تاريخ العالم) فأمريكا تبتعد عن العالم، ويعتقد أن نهاية (العهد الأمريكي جاءت قبل ذلك بكثير)، أي مع الأزمة المالية عام 2008 ، والتي أكدت كما يقول أن (المصادر طويلة المدى للضعف والانحدار الأمريكي محلية أكثر منها دولية). وفي رأيه لن تنهار أمريكا قريباً فـ (ستبقى كقوة عظمى لسنوات عديدة، لكن مدى تأثيرها يعتمد على قدرتها على إصلاح مشاكلها الداخلية، بدلاً من سياستها الخارجية).
يقول فوكوياما إن فترة ذروة الهيمنة الأمريكية استمرت أقل من 20 عامًا، من سقوط جدار برلين في عام 1989 إلى ما يقرب من الأزمة المالية في 2007 - 2009 ، حيث كانت أمريكا مهيمنة في العديد من مجالات القوة آنذاك -العسكرية والاقتصادية والسياسية والثقافية. ويرى أن ذروة (الغطرسة الأمريكية) اتضحت حين غزت العراق في عام 2003 ، فقد كانت تأمل في أن تكون قادرة على إعادة تشكيل، ليس فقط أفغانستان والعراق، ولكن الشرق الأوسط بأكمله.
هذه الغطرسة في ممارسة القوة، كما يعلمنا التاريخ، هي بداية النهاية للدول وحتى للأفراد، فالإحساس المفرط بالقدرة على فعل كل شيء رأيناه في السلوك الأمريكي تجاه الشرق الأوسط، فأمريكا تعطي نفسها الوصاية على كل أمور الكون، ونست أن لديها مشاكلها الرئيسية. وهذا ما يستخلصه فوكوياما. يقول: (التحدي الأكبر لمكانة أمريكا العالمية هو محلي. المجتمع الأمريكي مستقطب بشدة، ويجد صعوبة في إيجاد الإجماع على أي شيء تقريبًا. بدأ هذا الاستقطاب حول قضايا السياسة التقليدية مثل الضرائب والإجهاض، واستمر إلى صراع مرير حول الهوية الثقافية. كان طلب الاعتراف من جانب الجماعات التي تشعر بأنها قد تم تهميشها من قبل النخب شيئًا حددته قبل 30 عامًا على أنه كعب أخيل للديمقراطية الحديثة. عادة، يجب أن يكون التهديد الخارجي الكبير، مثل جائحة عالمية، هو المناسبة للمواطنين للالتفاف والاستجابة المشتركة للمخاطر؛ إلا أن أزمة كوفيد - 19 أدت إلى تعميق الانقسام حول التباعد الاجتماعي وارتداء الكمامات، والآن يُنظر إلى التطعيمات ليس على أنها تدابير للصحة العامة ولكن كمواقف سياسية).
ويرى أن هذا التناحر والاستقطابات الداخلي أضر بتأثير أمريكا العالمي، بالذات في (القوة الناعمة)، أي جاذبية المؤسسات الأمريكية والمجتمع الأمريكي للناس في جميع أنحاء العالم. يقول: (لقد تضاءل هذا النداء إلى حد كبير: من الصعب على أي شخص أن يقول إن المؤسسات الديمقراطية الأمريكية كانت تعمل بشكل جيد في السنوات الأخيرة، أو أنه يتعين على أي دولة تقليد القبلية السياسية في أمريكا، وتقليد أداء حكومتها التي تختل وتتراجع وظائفها. السمة المميزة للديمقراطية الناضجة هي القدرة على إجراء عمليات نقل سلمية للسلطة بعد الانتخابات، وهو اختبار فشلت فيه البلاد بشكل مذهل في 6 يناير).
الأمر المهم الذي أشار إليه ويرى أنه أحد المشاكل الرئيسة لتراجع أمريكا هو التقليل من مخاطر (تأثير نموذج اقتصاد السوق الحرة)، فالثقة المبالغ فيها بنموذج اقتصاد السوق الحرة تزامن مع المبالغة في تقدير فعالية القوة العسكرية لإحداث تغيير سياسي كبير ورئيسي.. فالآن يمضي عقدان على تورط أمريكا في حربي العراق وأفغانستان كلفتها أكثر من 3 تريليونات دولار، وأزمة مالية دولية زادت من التفاوتات الهائلة في الدخل نتيجة لتطبيقات العولمة التي صاغتها وقادتها أمريكا.
ليس فوكوياما وحده من يتحسر ويتألم على تراجع النموذج الأمريكي!