رمضان جريدي العنزي
كانتا مدينتين مبللتين بالخير، ومعجونتين من ياسمين، كانتا مثل طائر يجوس غرف القلب، ومثل فراشة وحرير، ونافذة مفتوحة على ضباب، كانتا قصيدتين نخبويتين، وحقلين مزروعين بسنابل الحياة، جناحين يرفرفان، وأديم وسديم، ونهر وظل، حلم يكتمل، وبقايا عطر، كانتا صديقتين للغيوم، والقمر والندى، كانتا نافورة وضوء، وضفائر جدائل، كحل العيون، وكحل القصائد، كانتا حلماً يمر نحو الحلم، وجوز حمائم، كانتا عباد شمس، وزهرتين في حديقة يانعة، ندى في رعويات المواسم، فل وزعفران، زهرتان تتفتحان في وجه الريح، حمامتان لهما نشيد، فراشتان في ليل نيسان، وشمسان في حزيران، ومساءان مدججان بالنجوم، حتى جاءهما الغريب بعود الثقاب ليسقط القرميد، ويشعل أشجار الغابة، ويحرق الياسمين، باغت طيور النورس، وقتل العصافير، خدش الجلد، وفرك العيون، وأوغل في تعذيب الأرض والجسد، جرعهما سم الحياة، وأذاقهما الممات، هذا الغريب أفعى بسبعين ناباً وظفراً، وحش يمشي في الظلمة، ليسرق البيوت، وينهب المقابر، أطفأ الشموع، وأسدل الستائر، وأوغل في الدم والخراب، أعمى لا يعرف الليل من الظهيرة، ملأ المدينتين بالحجر والجوع والتعب، وأشعل النار فوق الماء، ورشهما بالرماد، كسر المرايا، وجاء بالخصام والشتاء، وأطفأ الحلم في كل صباح، لا يقول خيراً ولا ينام، حشد الأرض والناس بالعواصف والدموع، مجرم حرب، ولص مطارد، ويرأس حزباً مارقاً، ينقض على البيوت كخفاش مسعور، أو وحش أجرب، له عينان كإبليس، ولساناً أعوج، طامع يعمل لطامع، خرب هاتين المدينتين من أجل عيون الغريب البعيد، ليعيش على اطلالهما كما يعيش البليد، مدينتان من نعناع، كأنهما بحيرتان من ياقوت وزمرد، ضربهما بألف ناب وسهم وشظية، حتى حولهما هذا الشيطان إلى أرض من تيه وخراب، وما بقي فيهما غير صفصافة ميتة، متوحش هذا الغريب، يتمترس خلف الغريب، ويشعل في أرضه وأهله النيازك.