د.محمد بن عبد العزيز الفيصل
يقول توماس جيفرسون: «لا تزيد الديمقراطية عن كونها حكم الغوغاء، حيث يمكن لواحد وخمسين في المئة من الشعب استلاب حقوق التسعة والأربعين في المئة الآخرين!».
منذ انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية مطلع شهر سبتمبر من العام 1945م، عندما ألقت طائرة ( بي 52 ) أول قنبلة ذرية على اليابان والتي راح ضحيتها مجتمعات كاملة بكل مكوناتها وفئاتها؛ بدأت الولايات المتحدة الأمريكية عملها الدؤوب بنشر ثقافتها (الأنقلوأمريكية)، إلا أن هذا الغزو لم يكن عبر القنابل الذرية وإنما عبر القوة الناعمة، التي اجتاحت العالم لتقدم كل شيء بالمقاس الأمريكي بداية بالملابس وانتهاءً بالقيم الإنسانية! التي كشفت رغبتهم شديدة في إعادة ضبط توقيت العالم وفق الأبعاد التي تتلاءم وتتناسق مع قيم الحرية التي كان ولا يزال ينادي إليها الأمريكان باستمرار وبلا توقف.
لا أريد أن أسرد التاريخ السياسي للولايات المتحدة الأمريكية، لأكشف مدى التباين في المواقف التي تحمل في طياتها أفعالاً قد تصل إلى حد التناقض في مضمونها الذي يكشف عن توجهات لا تعكس رأي الأغلبية السياسية فحسب وإنما تترجم وجهات نظرٍ أحادية لأقلية تسيطر على الحكم هناك، ولا نستغرب أن تكون هذه الفئة التي تهيمن على القرار في واشنطن على صلات وثيقة مع عناصر أجنبية غير أمريكية، فهي بلا شك مستفيدة من القرارات التي تتخذها هذه الدول العظمى، وفي هذا السياق يبرز النفوذ الإيراني الذي تكشّفت علاقاته الوثيقة مع أصحاب القرار في الحزب الديمقراطي، وإذا أردت أن أتحدث بالمعايير الأمريكية بما أن الموضوع المطروح أمريكي بامتياز فلا بد أن أقول إنها لا تخدم المؤسسة السياسية الأمريكية فحسب، وإنما تطبق أجندات أجنبية معروفة يقودها اللوبي الإيراني في واشنطن!
وهنا تطفو بعض الإرهاصات على السطح لتقول لنا إنه ليس كل ما يصدر عن الحكومة الأمريكية يمثل الأمريكان، أو على أقل تقدير يمثل غالبية السياسيين الذين يطمحون لتكون قرارات دولتهم السياسية تتماشى مع مفهوم المصالح الكبرى للولايات المتحدة الأمريكية.
لا يهمني الشأن الأمريكي الداخلي بقدر مساسه بالمملكة ومصالحها؛ التي ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالمصالح الأمريكية، ولكن ثمّة فرق كبير بين السياستين السعودية والأمريكية، وهذا الفرق الجوهري يكمن في تعاطي الدولة مع شؤونها الخارجية وفق سياسات واضحة وثابتة بعيدة عن البراقماتية التي تؤطّر المسار السياسي، فإذا نظرنا إلى مجمل السلوكيات الصادرة باسم الحكومة الأمريكية الحالية والتي تمثّل سياسات الحزب الديمقراطي بامتياز ولا تعكس توجهات جُل السياسيين الأمريكيين؛ فسنجد بأن هؤلاء يخلطون الحابل بالنابل، فقراراتهم -التي يديرها أوباما- مكسوة بنار الحقد على العرب والمسلمين، لتتحول هذه الانطباعات والتوجهات النفسية إلى معايير لقراراتهم السياسية! ولعل مواقفهم المنحرفة في دعم محور الشر إيران، ورفع العقوبات عنها وتمكين طالبان من مقاليد الحكم في أفغانستان بعد احتلال استمر عقدين من الزمان تؤكد ذلك.
أقول هذا الكلام بعد المواقف المتناقضة التي تبنتها الحكومة الأمريكية من قضية قتل المرحوم جمال خاشقجي، حيث عايش الرأي العام العالمي رأيين متباينين لقضية واحدة! والأعجب من ذلك أنها صدرت من المؤسسة السياسية ذاتها!
وبعيدًا عن ذكرى القنابل الذرية التي أُلقيت على اليابان، لا بد أن يستوعب العرب والمسلمون أن مقاييس الإنسانية لدى هؤلاء تتغير وتتبدل وفق مصالح متحولة ممزوجة بتوجهات يسارية مشبوهة! وهنا يكمن الفرق بيننا وبينهم، وإلا فأين حكومات وشعوب العالم المتحضر من تلك الحروب التي جيّشت فيها الولايات المتحدة الأمريكية العالم أجمع ضد طالبان الذين ضجت وسائل الإعلام بصورهم وأنهم رموز خالدة للإرهاب، فها هم اليوم يخرجون من أعتى سجن عرفه العالم أجمع (غوانتنامو) لينصّبوهم زعماء على البلد الذي أزاحوهم منه، ولم يردوا له الاستقرار أو النهوض يومًا!
اكتست مواقع التواصل الاجتماعي مؤخرًا بمقاطع مرئية وصور عديدة، لعمليات نزوح القوات الأمريكية التي ظلت على مدى عقدين من الزمان مسيطرة على أفغانستان، وكلنا يعرف السبب الرئيس في التواجد الأمريكي هناك، وهو من أجل كبح جماح الدب الروسي في الشرق، ومن بين ما عرض على شاشات العالم طائرات البنتاغون وهي تعلو في السماء وأجنحتها محملة بالأفغان الذين طارت وتناثرت جثثهم في المطار، وبعضها الآخر علقت لتصل هامدةً مع الطائرات التي حطت رحالها في بعض الدول الخليجية التي استقبلت هذه الخلايا النائمة الهاربة من أوطانها، والتي ستعود بالويل والثبور على هذه المجتمعات الأصيلة؛ التي عجزت قوى اليسار عن اختراقها فلجأت إلى خطة متحولة لتغيير التركيبة الديموغرافية لهذه الدول ذات المجتمعات المتماسكة!
كلنا أمل في أن تعود الولايات المتحدة الأمريكية إلى رشدها، وأن تتخلص من سيطرة هذا الحزب اليساري المتطرف الذي أدخل هذا البلد المتقدم في دوامة أهواء وتحالفات خاسرة، لتكون حساباتهم بعيدة عن لعبة المصالح التي طالما حكمت سياسة أمريكا وقننت علاقاتها مع العالم أجمع.
هي رسالة إلى كل من ينادي بتغيير القيم والمبادئ العربية والإسلامية التي تأسست عليها هذه البلاد والتي تعتز بها قيادة هذا الوطن في كل المحافل.
إن هذه المبادئ الراسخة لا تتبدل ولا تتغير مع مرور الزمن بل يزيدها الوقت لمعانًا وبريقًا، فما دفع هانئ بن مسعود الشيباني لنصر النعمان بن منذر الذي نكّل به كسرى والوقوف في وجه دولة عظمى في ذلك الوقت وهي مملكة فارس، هي ذاتها قيم المروءة والعزة والكرامة التي دفعت ملوك هذه البلاد الطاهرة لنجدة البحرين، واليمن من براثن الظلم والمجوس، ولهذا كان التوفيق حليفنا، والرشاد سبيلنا، فدمت يا بلادي منارًا للهدى، ومنبرًا لكريم الأخلاق والأفعال.