المحافظة على التراث لأجل الحفظ لا يخدم حماية أصوله، ولكن التعامل مع التراث بمنهجية التعريف والتقديم للأصل، وحماية الجذور هو ما يحتاجه التراث الوطني بشكلٍ عام، وفي عالم سباقات الهجن، انتصار صاحب السمو الملكي ولي العهد لهذا الموروث في عرضه في حلّة لم يسبق أن حدث في المملكة العربية السعودية، فعلى مدى 4 سنوات من بدء مهرجان ولي العهد للهجن - ورغم جائحة كورونا- عندما تم التعامل مع هذه الرياضة بتوزيع المهرجان على مناطق المملكة استمراراً لعطائه -حفظه الله، أصبح الحدث الأكبر والأطول زمناً على مستوى الخليج، لوجود أكثر من عامل ساهم في تسجيل أعداد باهظه لإبل السباق.
لم أحظ بشرف حضور المهرجانات الأولى لظروف دراسية، ولكن كانت المتابعة متواصلة، وفي النسخة الثالثة للمهرجان 2021، ظهر الفرق في النقلة النوعية لهذه الرياضة الساحرة، ومدى الاهتمام الذي حظيت به كمكوّن وطني رسمي شأنه شأن الرياضات الأخرى التي ترعاها وزارة الرياضة، وحتى وإن كان الطموح لنا كملاك ومحبين للهجن وسباقاتها لم يكتمل نصابه، إلا أن النقلة النوعية الحالية في المهرجان تعطي مؤشرًا إيجابيًا بأن هذه الرياضة في طريقها إلى هرم النمو، لأن هذا الاهتمام ليس لمجرد أنه تراث، ويستفيد منه المواطن، والمكان، ولكن لأنه نابع من قناعة تامة بأهميته وتعزيز واستمرار التواصل الحي مع التراث وفقاً لتاريخيته المتراكمة على مر العصور، ويحمل ذاكرة نابعة بالحياة تربط بين اليوم والأمس بشكل مستمر، ويحمل أصالة تعبّر عن ثقافة وهويّة تربط الإنسان بالمكان، حفظتها جبال الوطن، وعاشها ابن الوطن. فالحراك الثقافي الذي بدأ يأخذ خطواته المأمولة في قطاع الإبل بشكل عام، ودمجه بحداثة العالم محلياً ودولياً مع حفظ الأصل هي بوابة الانطلاق إلى توازن هذا المنتج كموروث مستمر تعايش مع التغييرات التي شهدها العالم أجمع على الأصعدة كافة، ويحفظه من الاندثار في خضم الصراع الثقافي والتقني.
مشاهد تنقلها وسائل التواصل الاجتماعي لأبنائنا الصغار وهم يهتمون بإبل السباق، ويتحدثون عنها بكل طلاقة، وتعاملهم مع هذا الحيوان الذي وهبه الله ما لم يهبه غيره يحمل للمشاهد الشعور الغريب في التواصل بين الإنسان والإبل، وأن بقاءه كموروث رغم التغيرات الثقافية لا خوف عليه، وأن ما مرّت به الهجن من مرحلة كساد لم تمت، بل استمرت حتى جعلها ولي العهد -حفظه الله- ضمن أولويات الاهتمام كسائر القطاعات الأخرى، مما يجعل هذا الموروث النفيس حيًّا ومُعاشًا وذا امتيازات محفّزة للدخول إلى هذا النشاط نظراً لقيمته المعنوية والحسيّة، وما يتمتع به من حس روحاني وطاقة لا تتوفر في رياضة أخرى لأسباب إلهية خص الله بها هذا الحيوان عن سائر المخلوقات الأخرى، وتطويع التقنية لمسايرة الركب في هذا النشاط الرياضي الأصيل.
العديد من الصور التي تصلنا من مهرجان ولي العهد للهجن في نسخته الثالثة بالطائف هي صور ناطقة، صور تتحدث عن قيمة أصيلة احتضنها مالك الهجن، صورة مطمئنة لأن هذه الرياضة رغم ما يمر به العالم من صراع وتداخل واستنساخ ثقافي ستبقى على مكانتها وأصالتها، وأن القادم مشرق لهذ الموروث المتميّز بتكاتف جميع المعنيين من مواطن ومؤسسات حكومية لتحويله إلى عامل إيجابي للاستثمار الثقافي ذي العائد المباشر بدورة اقتصادية يتعامل معها الفرد بكل مرونة ويسر.
** **
- مرضي الخمعلي