لاشك أن ديننا الاسلامي القويم حثّنا على اختيار الصديق الحميم والرفيق الصالح، وحذر من صديق السوء الذي يؤثر في كثير من الاتجاهات التربوية والسلوكية والأخلاقية والاجتماعية والدينية للصاحب، على اعتبار أن (جماعة الأصدقاء أو الأقران) من مؤسسات التنشئة الاجتماعية المؤثرة في تشكيل وبلورة الشخصية وبناء مكوناتها الرئيسية, وإشباع حاجات الفرد للمكانة والانتماء, وقديماً قالوا «الرفيق قبل الطريق».!!
ومعلم البشرية النبي محمد صلى الله وعليه وسلم نبهنا إلى أهمية (انتقاء الصديق) عندما قال عليه الصلاة والسلام (المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل).
ولا مناص من أن الصداقة علاقة اجتماعية وثيقة، تقوم على مشاعر الحب والجاذبية المتبادلة بين شخصين أو أكثر، وتتميز بعدة خصائص، منها التقارب العمري، والاستقرار العاطفي والوجداني، والتوافق الفكري والعلمي والثقافي، مع توافر قدر من المقاربة في السمات الشخصية، والقدرات والظروف الاجتماعية، والبيئة المكانية.
والصداقة تعتبر إحدى مؤسسات التطبيع الاجتماعي والأخلاقي والنفسي والعقلي التي تسهم في اكتساب الفرد المهارات الاجتماعية والقيم الأخلاقية والسمات النفسية، وإشباع النمو العاطفي والاجتماعي له. والصديق يؤدي دوراً مؤثراً في تغير القيم ومعاييرها، والتأثير في معظم الاتجاهات السلوكية والتربوية للفرد، ولذلك وكما يقول المثل الشعبي «الصاحب ساحب..!»، وعندما تتسم الصداقة بروح الحب والثقة الواعية والمشاعر الوجدانية والصدق والأمانة والوضوح وبالعلاقة الإيجابية المتبادلة، تصبح صداقة متينة، محافظة على رابط المودة والألفة والتضامن الاجتماعي، ولكن عندما تتحول هذه الصداقة إلى خيانة وكذب وغدر وتلّون في السلوك وغيرها من العمليات الاجتماعية الهدامة، تصبح صداقة مزيفة وممزقة في روابطها الوجدانية، لا طعم ولا لون لها، صداقة فاشلة، تقوم على المصالح الشخصية والأهداف الذاتية، ومثل هذا النمط من الصديق (المتلون) في سلوكه، عندما يقوم بممارسة الخيانة (خيانة الثقة) وكشف الأسرار المستأمن عليها، خاصة حين تصبح خيانة كبيرة وعميقة في جرحها الوجداني مع زميله، تكون خيانة مدمرة اجتماعياً ونفسياً وعاطفياً، ولذلك قال بعض الحكماء «عندما يخوننا صديق نتألم، وعندما يخوننا إنسان بعيد نتعلم»، ومثل هذا النوع من الخيانة يفضل التعامل مع صاحبها بشيء من الحذر والخوف في إفشاء بعض الأسرار التي استأمن عليها الصديق، ولا ريب أن للخيانة بين الأصدقاء أسباباً عدة، منها -على سبيل المثال- ضعف الوازع الديني، والدين عامل مهم في تقويم وضبط السلوك الاجتماعي، ومن الأسباب أيضا وجود خلل وظيفي في التنشئة الأخلاقية والاجتماعية والنفسية والعقلية والعاطفية للصديق الخائن، كما أن وسائل الإعلام الفضائي والإعلام الرقمي الجديد ومكوناته أسهمت في ترويج ثقافة الخيانة بين الصديق وصديقه، كما أن سلوك الخيانة في هذا الاتجاه انعكاس لضعف القيم المعنوية والروحية، وتغليب القيم المادية في الثقافة، التي يعيشها المجتمع، فالتقدم التقني ونظم العولمة والتكنولوجيا الحديثة وتحدياتها الثقافية، لا شك أنها ساعدت على نشر آفة الخيانة بين بعض الأصدقاء، ولذلك يمكن مسامحة الصديق عندما يخون صديقه، والعفو عن زلته للمرة الأولى، انطلاقاً من قوله تعالى: «وأن تعفو أقرب للتقوى)، مع الأخذ في الحسبان نوع السلوك ودرجة تأثيره، ولكن عندما تتكرر هذه السلوكيات المخالفة والممارسات غير الألاقية، وتستمر وتيرة التجاوز اللاخلاقي من الكذب والغدر والتلّون الحرباوي في العلاقة، تصبح العلاقة مرفوضة اجتماعياً وأخلاقياً وقيمياً.
والأكيد تبقى (الصداقة القديمة) بطيف ذكرياتها وجمال روحها وحنينها لاسيما صداقة أيام الدراسة والطفولة هي الأجمل والأصدق والأروع في الحياة الاجتماعية بين الاصدقاء، على اعتبار انها تقوم على أسُس التواد والمحبة وقيم الوفاء والنقاء. فضلاً عن التقارب العمري والفكري والعاطفي بين الاصدقاء القدماء في الزمن الفائت.!
ولذلك يمكن تصنيف الصديق في الماضي بالصديق (الحقيقي) الوفي لأنه كان معك في السراء والضراء، وفي الفرح والحزن، وفي السعةِ والضيق، وعاشر أهم مراحل وتفاصيل العمر (الطفولة والشباب).. بل البعض يؤثرك على نفسه، ويتمنى الخير دائماً لك. وبالتالي يحافظ على العهد والوعد وتأمنه على كتم الأسرار والخصوصيات داخل صندوق (الثقة) الأسود.!!
وأخيراً هناك من الأصدقاء من يكون حضوره في حياتك علامة فارقة، وهناك من يكون علامة فارغة، فانتقِ (الصديق الحقيقي)، واحذر من (الصديق المزيّف) المتّلون..!! الذي تكون علاقته بك مبنية على المصالح والمراوغة، ولا يكون صادقاً بمشاعره أو مخلصاً بصداقته.
** **
- باحث أكاديمي