د.عبدالله بن موسى الطاير
المشكل في تماهي التحليلات السياسية مع الشهية الشعبوية؛ فالرغبة في حشد الجماهير تجعل المتحدث والكاتب يخاطب الغرائز ويتناغم مع الرغبات على اعتبار أن الجمهور «بدو هيك». ستكون النتيجة تسطيح الخطاب المؤتمن على التفسير الحقيقي والمنطقي للأحداث. وفي أفغانستان تنسجم تغطية أحداثها مع رغبات الرأي العام. ولذلك تسيد المشهدَ التفسيرُ التآمري الذي تم حبكه في الدوحة بين اليمين الأمريكي المحافظ برئاسة الجمهوري ترامب، وبموجبه تم تسليم أفغانستان إلى حركة إرهابية من أجل زعزعة أمن الصين وإيران. ولتكريس نظرية التآمر استدعيت الماسونية العالمية لتدفع برئيس أمريكي ليبرالي إلى إكمال دور سلفه اليميني بتسريع مناولة الأمانة. البعض جيّر ما حدث لصالح إيران وأنها المستفيد الوحيد مما حدث في أفغانستان، وبذلك ستعيد توجيهه نموذج طالبان للإطاحة بالأنظمة المناوئة لها وبخاصة في الدول العربية. أما ثالث الأثافي فهي تصوير ما حصل على أنه هزيمة عسكرية ألحقتها جماعة إرهابية بالقوات الأمريكية.
هذه الطروحات الشعبوية تصادر حق طالبان في نضالها ضد 64 دولة احتلت أفغانستان عام 2001م بقيادة الناتو، الذي يملك مجتمعاً أكبر قوة مدمرة على وجه الأرض. منذ أكتوبر 2001م تشظت أفغانستان إلى فريق رحب بالاحتلال وعمل معه، وانخرط في عملية استنساخ أفغانستان شبيهة بالمجتمعات الغربية الديمقراطية، وفريق لا يستهان به آثر المراقبة والانتظار للعب مع من غلب، وفريق ثالث مثلته طالبان نزح إلى الجبال والكهوف يحارب الاحتلال.
صمود طالبان كان في تمسكها بأيدولوجيتها المتشددة، مما جعلها مغايرة للمجتمع الذي صنع على عين أمريكا، ولذلك كانت أدوات الفرز بينة ولم تسمح بوجود منطقة رمادية تشكل سوق نخاسة لبيع الولاءات كما هو الحاصل في اليمن. أدركت طالبان مبكراً أنها لن تهزم أمريكا بالحوار، ولا بالديمقراطية، ولا بالعلمانية ولا بحقوق الإنسان على النكهة الغربية، ولا بتمكين المرأة، فكل تلك الأسلحة تبرع فيها أمريكا ودول الناتو ولن تجيدها طالبان. ولذلك بقيت متمسكة بعناصر قوتها يجتمع حولها أبناء الشعب الأفغاني. استغرق الأمريكيون وقتاً طويلاً لفهم المشهد، والاقتناع أن لدى طالبان قواعد شعبية تدعمها، وأنها تتحرك بحرية داخل أفغانستان وخارجها وبخاصة في دول الجوار. ونتيجة هذا الفهم الأمريكي المتأخر، بدأ الرئيس ترامب مباحثاته مع طالبان، لأنه أدرك أن لدى الحركة القوة الكافية على الأرض للوفاء بما تقطعه من وعود، وأغفل الحكومة الشرعية.
الحقيقة التي ولدت خلال الأيام الماضية في أفغانستان قد تشجيع حركات المقاومة المزعومة في غير بلد عربي. نشوة الانتصار قد تدفع بحزب الله، وحماس، والحشد الشعبي، والحوثي لابتلاع البلدان التي تنشط فيها. لكن القياس غير مستقيم، فالنماذج السابقة صناعة إيرانية لا تختلف عن الصناعة الأمريكية التي انهارت في أفغانستان، وهي لا تعبر عن قضايا وطنية بقدر تعبيرها عن مصالح دولة أجنبية. وهذا يعيدنا للمصلحة المزعومة لإيران في انتصار طالبان. بدون أدنى شك تشكل طالبان عدواً إستراتيجياً لإيران، وهما ليس على وفاق بالمطلق، ولكن الدولتان قد تتعاونان تعاون المضطرين، وذلك عرف معمول به في العلاقات الدولية.
أما كون طالبان حركة إرهابية هزمت أمريكا و64 دولة، فهذا اختزال وتبسيط للحدث، فأمريكا لم تنهزم، ولم يكن في أفغانستان سوى 2400 جندي أمريكي، ولكنها انسحبت، وهو تماماً ما فعله الاتحاد السوفيتي من قبل؛ حيث انسحب وخلّف محمد نجيب الله الذي صمد أكثر مما صمد الجيش الذي بنته أمريكا. ولست الأول الذي يبرئ طالبان من العلاقة مع داعش والجماعات الإرهابية وإنما سبقني مستشار الأمن القومي الأمريكي الذي اعتبر أن تنظيم خراسان هو ألد أعداء طالبان. ومع ذلك فلنتوقع تفجيرات وقتل في محاولة لإفساد مشروع التوافق الذي تقوده طالبان في بلادها، وسوف تُحمل طالبان وزر ما يحدث حتى وإن كانت بريئة منه.
الوضع لم يستقر لطالبان، فما زالت الطريق أمامها طويلة وأكثر أجزائها مشقة هي السمعة المتوحشة للحركة. وعليها أن تخوض معركة لتأمين الناس وتطمينهم للبقاء في بلادهم. كما أن سيطرة طالبان على الحكم سيعني ولادة معارضة تستند إلى مرجعيات قبلية أو طائفية، وسيكون تحدياً ينذر بحرب أهلية.
إذا كان قادة طالبان يعتقدون أنهم قادرون على إخضاع الشعب الأفغاني لشروط طالبان التي فرضتها على المجتمع الأفغاني عام 1996م فهم مخطئون تماماً. الشعب الأفغاني وبخاصة المرأة والشباب حصلوا على مكتسبات لن يفرطوا فيها ولن تقبل كثير من دول العالم الاعتراف بحكم الحركة إن هي لم تلتزم بحقوق الأفغان جميعاً. الأيسر للحركة هو فتح باب للحوار حول النصوص الشرعية التي حكمت بها قبل ربع قرن تقريباً، وسوف تجد تفسيرات وتأويلات تخرجها من مأزق مخالفة الشريعة التي انتصرت بها.