سهام القحطاني
«لا يمكننا الآن الاستسلام للذعر، لا وقت لدينا للذعر، لا وقت لدينا للتأسف على حالنا لا وقت لدينا للدراما.. أنا امرأة أفغانية وأريد البقاء في بلدي» - الناشطة الحقوقية الأفغانية محبوبة سراج-.
فجأة أصبحت أعين العالم معلقة في أفغانستان وكأن التاريخ يعيد نفسه.
وإذ بنا مرة أخرى أمام صورة طالبان وهي تتحرك في العلن أمام مرأى ومسمع من الجميع، صورة نبشت ذاكرة العالم وأعادت ذكريات مؤلمة للبعض وتصورات مقلقة للبعض واحتمالات محيرة للبعض الثالث، وتساؤلات تفتح الطريق أمام حركة طالبان لعلها اليوم غير الأمس وهو ما تراهن عليه قوى العالم التي كان لها نصيب من التعامل بالقوى الناعمة أو غير الناعمة مع طالبان عبر تاريخها الذي امتدّ لأكثر من عشرين عاما، ففي السياسة لا عدوات دائمة ولا صداقات دائمة فحيثما توجد مصلحة الدول تنعقد الصداقات ويتحول الأسود إلى أبيض.
فهل طالبان اليوم غير طالبان بالأمس كما تتوقع قوى العالم؟
والسؤال بصيغة أخرى هل الأيديولوجية التي تأسست في ظلها طالبان تتحمل قابلية التغير أو التعديل أو حتى الاعتدال؟
هل علينا ألا نتسرع في الحكم على طالبان وفق سيرة الماضي وحكاياته ونمنحها فرصة إثبات قابلية التغير والتعديل والاعتدال؟
هل الموضوعية تقتضي من العالم أن يتريث على الحكم على طالبان حتى تكتمل منظومة أفعاله لتصبح الأفعال هي أدلة الإدانة أو براءة الخلاص؟
لقد تعهدت طالبان بالسلوك الحضاري مع الدبلوماسية الدولية وجيرانها والشعب الأفغاني وبعض الدول الغربية وعلى رأسها بريطانيا ترى أن تُعطى لطالبان فرصة لتحويل أقوالها إلى أفعال ليمكن الحكم على مدة واقعية تغيير وتعديل واعتدال الحركة في خطابها الأيديولوجي.
لكن ما مدى واقعية ذلك التغير والتعديل؟
عندما نتأمل تاريخ الأيديولوجيات، خاصة تلك التي اتصفت بالتطرف سنلاحظ أن كلما امتد الخط الزمني وبعُد عن المركز خفت شدة التأثر بمبادئ المركز؛ لأن الخط الزمني الممتد عبر الأجيال غالباً ما يتعرض لتراكم تجارب الجذب والانجذاب التي تفسح له الانفتاح مع الآخر بطريقة مباشرة أو غير مباشرة.
انفتاح يجبره على التماس مع التغييرات التي ينعكس أثرها في عقل ونفس ومعارف الشخصيات المنتمية لتلك الأيديولوجية، ولذا نلاحظ أن شدة التطرف الأيديولوجي تتراجع عبر الأجيال وينعكس أثر ذلك التراجع من خلال الخطاب باعتباره أبرز آثار التغير وهو ما لاحظناه في تعهدات طالبان نحو الوفود الدبلوماسية الغربية بمراعاة أمنها وسلامتها، الغرب الذي كان يمثل العدو والكافر عند طالبان من عشرين سنة.
إذن هذه النبرة الحضارية التي تتقافز اليوم من إعلانات طالبان وتعهداته قد تحمل مؤشراً أننا اليوم أمام طالبان بصيغة جديدة وأيديولوجية معدّلة تميل إلى الجانب الحضاري أكثر مما كانت تتبناه من فكرة «الإحيائية التاريخية».
تتغير الأيديولوجيات بتعدد الأجيال ولا شك أن جيل التأسيس لطالبان يختلف عن الجيل الذي يُحرك اليوم طالبان وسواء أكان هذا التغير حيلة أو يحمل بعضاً من الحقيقة، فلا شك أن العقلية التي تسير بها اليوم طالبان عقلية مختلفة عن الآباء المؤسسين عقلية تسعى إلى تحويل الحركة إلى نظام سياسي يتآلف مع المنظومة الدولية وتؤسس شرعيتها الحضارية والعالمية والطريق الوحيد إلى ذلك هو سلوكها الحضاري وخاصة على المستوى الإنساني وعلى قمته المرأة التي عانت في ظل طالبان من عام 1996 إلى 2001، الذي تعهدت طالبان بمراعاة حقوق المرأة واستمرار النساء في أعمالهن وإنجازهن ومكتسباتهن الحضارية وأن يكون النقاب اختيارياً لا إجبارياً، وهو مؤشر دال على مدى التغير الحضاري في خطاب الحركة لو قارناه في فترة حكم طالبان الأولى لأفغانستان.
لقد ساندت أمريكا وروسيا والغرب طالبان من خلال فتح باب التاريخ لها من أجل فرصة ثانية وهذه المساندة كما يراها المحللون لم بين السطور لم تكن لتتم لولا أن القوى الدولية تعلم علم اليقين بأن طالبان اليوم ليست طالبان الأمس وأن شريط السلامة والأمن يحيط بتحركات وتوجهات طالبان.
ما زال العالم وحتى الأفغان أنفسهم يسيطر عليهم الذعر وهم يراقبون طالبان تنتشر في كل مكان في أفغانستان ولكنه ذعر تتحكم فيه ذكريات الماضي المؤلمة أما ما هو وليد الواقع فإن طالبان تعلم أن العالم يراقبها وسوف يحاسبها وهي ستستثمر الفرصة الثانية كامل الاستثمار لتكشف عن وجهها الجديد الحضاري الذي قد يثبت بأن التاريخ لا يعيد هذه المرة نفسه.
اليوم طالبان تتصدر صياغة النظام العالمي الجديد ما بعد كورونا كما تصدرت النظام العالمي السابق المنتهي ولايته ولكن علينا أن نتذكر حقيقة أننا لا يُمكن أن نشرب من النهر ذاته مرتين.