محمد سليمان العنقري
شكَّل الانسحاب الأمريكي من أفغانستان نقطة تحول كبرى في منطقة آسيا الوسطى، وهو الذي تم الاتفاق عليه في عهد الرئيس السابق ترمب ونفذه الرئيس الحالي جو بايدن، حيث أصبح الحدث الأفغاني حديث الساعة في وسائل الإعلام، ويشغل حيزاً كبيراً من اتصالات الدول العظمى مع بعضها لتنسيق الجهود لاستيعاب عودة طالبان لحكم أفغانستان بموجب الاتفاق الذي تم في العام 2020م مع أمريكا، بينما تفرغت وسائل الإعلام لمحاولة فهم أسباب هذا الانسحاب وما هي تداعياته المستقبلية في دولة تشهد نزاعات منذ عقود طويلة أبقتها دولة تعيش في العصور الوسطى من حيث البنية التحتية والخدمات، وقبل كل ذلك انعدام الاستقرار السياسي والأمني. وإذا كان الجانب السياسي أشبع بالتحليل فإن المشهد الحالي تظهر فيه الأهداف الاقتصادية التي ينتظر تحقيقها من قبل أمريكا لمواجهة أهم منافسيها الصين من خلال هذا الحدث الذي يفتح الباب على احتمالات عديدة لمستقبل هذه الرقعة من جغرافيا العالم.
وبالنظر للمشهد الاقتصادي فإن أمريكا التي بدأت تشن حرباً تجارية ضد الصين منذ تولي الرئيس السابق ترمب قبل أكثر من أربعة أعوام كان يعتقد أن هذه الحرب قد تأخذ مساراً معتدلاً مع الرئيس الديمقراطي الحالي بايدن إلا أنه أطلق تصريحات أكثر تشدداً من سلفه الذي أصدر قرارات بفرض رسوم على الواردات الصينية في حينها وأعاد صياغة المعاهدات والاتفاقيات التجارية بين الدولتين، إلا أن بايدن قفز لمرحلة أكبر في هذه المواجهة عندما أعلن في اجتماع مجموعة السبع الكبار إطلاق مبادرته «B3W» تحت عنوان «إعادة بناء أفضل للعالم» لمواجهة مبادرة الحزام والطريق الصينية المختصرة بالرمز « BRI» التي أطلقتها بكين العام 2013 م، واشترك بها 68 دولة في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية وبعض الدول الأوروبية، وضخت خلالها الصين مئات المليارات كقروض لتمويل مشاريع بنى تحتية وربط تجاري يعزز وجودها الدولي بوتيرة أسرع ويخرجها من تحت تأثير الحجم الضخم لتجارتها مع أمريكا التي تمثل 25 بالمائة من تجارتها مع العالم بقيمة تصل إلى أكثر من 600 مليار دولار من أصل نحو 2.2 تريليون دولار حجم تجارتها عالمياً، بخلاف الحجم الكبير أيضاً لتجارتها مع دول الاتحاد الأوروبي أهم حلفاء أمريكا مما يعد نقطة ضعف في توازن تجارتها عالمياً، وهو ما اتضح من خلال بداية فرض رسوم من أمريكا على الصين، فلو تبعتها أوروبا فيؤدي ذلك لتأثير سلبي كبير على اقتصاد الصين ويعصف بنموه ويرفع من البطالة في بلد سكانه يتخطون 1.4 مليار نسمة.
فالسؤال ما أهمية أفغانستان كرقم في معادلة المواجهة مع الصين في ظل انسحاب أمريكي لم يأت نتيجة أي ضغوط أو خسائر بشرية بجنودها ضخمة كما حدث بفيتنام وتم الانسحاب بخطة مرسومة ومتفق عليها مع طالبان التي تبدو الأقوى بين زعامات أفغانستان كونها دولة تحكمها أقطاب وأمراء حرب سابقون وزعماء قبائل، خصوصاً أن غزو أمريكا لأفغانستان بلغت تكلفته المباشرة أي ما تم داخل الأراضي الأفغانية نحو 822 مليار دولار حسب دراسات عدة لمراكز أمريكية خلال 20 عاماً بخلاف تكاليف أخرى خدمة عملياتهم بأفغانستان عبر دول مجاورة أو قريبة فاقت تكاليفها 150 مليار دولار، أي لا يمكن أن لا يكون هناك أهداف لهذا الغزو ذي التكلفة الباهظة، فمن الواضح أن استعجال أمريكا بالانسحاب بهذا التوقيت ومع إقرانه بإعلان المواجهة مع الصين اقتصادياً مع تحركاتها لزيادة وجودها بالمحيطين الهادي والهندي والاقتراب أكثر من الصين بقواعد عدة بدول قريبة منها، وفي حال عدم استقرار أفغانستان وهو أمر متوقع في دولة لم يتحدد نظامها السياسي وقد يتغير من جمهورية لإمارة إسلامية ويتوقع حسب تصريحات أمريكية وغربية أن لا يكون هناك استقرار والخشية من انتشار ميليشيات إرهابية فيها وحاجتها لوقت طويل لبناء الأنظمة والتشريعات، وكذلك إنشاء البنى التحتية، فإنها دولة ستبقى غير مجدية استثماريًا حتى لو كانت تمتلك معادن متنوعة ومجدية تجارياً إلا بالتوريد للسلع والخدمات واستثمارات سريعة ومحدودة وليس ذات حجم كبير، أي يسهل انسحابها، فإن عدم الاستقرار قد يكون هو المحتمل بنظر الكثير من الدول ومراكز الدراسات الدولية مما قد ينعكس سلبًا على استقرار دول آسيا الوسطى، وهو ما يقلق الصين وروسيا لأنهما على حدود تلك الدول ويخشون من تأثير ذلك عليهما مستقبلاً.
تبنت أمريكا بعد تفكك الاتحاد السوفيتي 1991 مشروع «الفوضى» الذي بدأته بالشرق الأوسط، ويبدو أنها تنتقل به لآسيا الوسطى فهي لم تتضرر اقتصادياً من غزو أفغانستان 2001 فناتجها الإجمالي تضاعف خلال عقدين ليفوق 20 تريليون دولار، لكن من الواضح أنها دخلت مرحلة جديدة للدفاع عن هيمنتها على الاقتصاد العالمي، فالمواجهة الأمريكية مع الصين يبدو أنها تتسع ساحتها أكثر من أي وقت مضى، فالفترة الزمنية التي تفصل أن تصبح الصين أكبر اقتصاد عالمي وتتجاوز أمريكا لا تتعدى عشرة أعوام قادمة، بل تشير توقعات سابقة أن معدل النمو الحالي لاقتصاد الصين سيجعلها تتجاوز أمريكا العام 2028، وهذا ما يفسر زيادة الحراك الأمريكي بالقرب من الصين ومن كل الجهات، فهل تنجح أمريكا بإرباك نمو التنين الصيني أم أن بكين تجاوزت مرحلة قدرة أي دولة كبرى أن تؤثر في برامجها، ولديها ما يسمح لها بالوصول لأهدافها بما تمتلكه من قدرات مالية وتقنية ضخمة، فالأعوام القليلة القادمة ستجيب عن هذه التساؤلات.