د. عيد بن مسعود الجهني
عند الكتابة عن الأمن القومي العربي لابد أن تعود بنا الذاكرة إلى عام 1956م، تلك الفترة من التاريخ العربي وأمنه القومي، تمثل أعلى درجات تماسك الدول العربية، فالعدوان الثلاثي على مصر (إسرائيل، فرنسا، بريطانيا)، خرج من رحمه (قوة) العرب آنذاك رغم أن بعض الدول العربية لم تنفك بعد من عقدة الاستعمار (اللعين) لتنال استقلالها.
ذلك التضامن العربي أجهض العدوان الذي خططت له الدولة العبرية رغم أن عمرها آنذاك لا يتجاوز السبع السنوات، ويكتب التاريخ أن بلاد الحرمين الشريفين وقفت صامدة مع مصر ضد العدوان، بل إنها قطعت علاقتها بفرنسا وبريطانيا ولم تعد علاقاتها الدبلوماسية معها إلا بعد ستة أشهر من تاريخ إعادة مصر لعلاقاتها مع تلك الدولتين.
الأمن القومي العربي National Security استمر متماسكة، لكنه صحى على دوي النكسة عام 1967م، فإسرائيل لم تتوقف عن عدوانيتها (البغيضة) فشنت في ذلك العام عدوانها الكبير على مصر، وكان مؤتمر الخرطوم قمة في حياة الأمن القومي العربي، ومرة أخرى برز دور السعودية الذي اعتبر كلمة الرئيس عبد الناصر -رحمه الله- هي بيان المؤتمر، وقدم الملك فيصل -رحمه الله- شيكًا على بياض لدعم مصر وجيشها، رغم محدودية دخل السعودية من النفط في تلك الفترة، فسعره كان يحوم ما بين 1.8 و2 دولار للبرميل، واستمر الدعم السعودي خلال حرب الاستنزاف.
تلك الحربان مثلتا قاعدة قوية للأمن القومي، واستقرت على تلك الحال لتبلغ ذروتها في حرب رمضان/ أكتوبر 1973، ليمثل التضامن السعودي المصري القاعدة الأساسية للنصر في تلك الحرب التي ضربت عصفورين بحجر.. كسر عظم إسرائيل التي طالما صرح قادتها أنه لا يكسر، ناهيك أن حظر تصدير النفط العربي الذي قادته السعودية ضخ الدماء في عروق أسعار النفط ليسجل تاريخ الذهب الأسود أول ارتفاع في أسعاره.
وقد بقي العرب يتفقون في تضامنهم ضد العدو الإسرائيلي الذي احتل فلسطين وأجزاء من ديارهم، وهم يعيشون تلك الفترة من التاريخ، حدثت ثورة الخميني الذي نادى بتصدير ثورته إلى الدول المجاورة، وقد شعرت العراق بالخطر وكانت حرب السنوات الثماني بين البلدين، ولأن العرب أرادوا دعم أمنهم واستقرارهم لم يتأخروا عن دعم العراق في تلك الحرب، بل إن السعودية كانت الأكبر في دعم ذلك البلد وبلغ الدعم المالي لوحده أكثر من 29 مليار دولار.
وما أن انتهت تلك الحرب المدمرة حتى شعر بعض العرب بالارتياح ظانين أن شرها قد انتهى وأن العرب قد ضمنوا أن أمنهم القومي حي يرزق ويزداد قوة.
لكن حدث أمر جلل، إنه غزو العراق لدولة الكويت الذي يعد نكسة عربية كبيرة إلى الحلف في أمنها القومي، فالتاريخ يقول إن الثاني من أغسطس 1990 عندما احتلت العراق دولة الكويت يمثل يومًا أسود في تاريخ الأمن القومي العربي الذي تحطم كاملاً على صخرة ذلك العدوان الرهيب الذي أعقبه انقسام العرب في مؤتمر القاهرة الذي أيد بعضهم (بقوة) للأسف عدوان العراق.
لكن السعودية كقيادة مسئولة عن وطن وشعب حسمت الموقف فقد كانت اللحظة تاريخية وكان الظرف دقيقًا، وكان القرار السعودي تاريخيًا فاتخذت قرار التحرير وتكون تحالف قوي أطاح بالقوة الغازية وشمت الكويت رائحة التحرير.
وبين الأمس واليوم في تاريخ الأمن القومي العربي أحداث جسام، فإذا كان القرن المنصرم شهد تماسك العرب إلى حد كبير حتى تحرير الكويت رغم أن بعضهم غرد خارج السرب مؤيدًا الغزو الغادر، لكن النتائج كانت تاريخية إلى حد كبير.
اليوم للأسف الأمة وأمنها القومي يواجهان تحديات غير مسبوقة، تهدد أمنهم واستقرارهم، وإذا كان الأمن القومي في تعريفه المبسط، يقصد به (قدرة الدولة - أية دولة - على حماية قوتها الداخلية والخارجية والعسكرية ومكتسباتها الاقتصادية في مختلف مناحي الحياة لمواجهة الأخطار والتحديات التي قد تهددها على المستوى الداخلي والخارجي).
وإذا أخذنا هذا التعريف كمثال، وعرفنا أن الأمن القومي يتكون من مبادئ تنبع من طبيعة الأوضاع الداخلية والخارجية للدولة، يتضح أن الأمن يركز على عناصر عديدة إذا توفرت فإنها تحقق للدولة أمنها واستقرارها من خلال حماية مصالحها ومكتسباتها وتنمية مواردها ودعم سياساتها.
القوة العسكرية مثلاً تعتبر العمود الفقري لتحقيق أمن ورخاء وازدهار الدولة، والقوة الاقتصادية هي الأخرى إذا كانت إدارتها رشيدة تدعم سياسات الدولة داخليًا وخارجيًا، والطاقة من نفط وغاز وجميع الموارد الطبيعية تعد عناصر مكونة للأمن باعتبارها عناصر مكونة للأمن وترتبط ارتباطًا وثيقًا بمفهوم عناصر قوة أمن الدولة.
وكل هذه المرتكزات المهمة من الثراء تتوفر في معظم الدول العربية وما تحتاجه سوى إدارة الثروات بشكل علمي رشيد.
إذًا القوة العسكرية تعد الأكثر أهمية وفاعلية، إعدادها ضرورة وليس ترفًا، وعدم بنائها يزيد من حدة التهديدات والأخطار التي قد تواجهها مما قد يؤدي إلى انهيارها أو قد يجعلها عرضة لسيطرة وحماية دولة أخرى.
ومنطقتنا العربية اليوم تمر بمتغيرات وتطورات سياسية وعسكرية وإستراتيجية واقتصادية وتقاسم نفوذ خطير في تاريخها الحديث تترك آثارها السلبية على الأمن القومي العربي، وكل واحدة من تلك الأحداث أكبر من أختها، والمتابع لتلك التطورات قد يرى أن سحبًا قاتمة قادمة.
لنأخذ العبر والدروس التي نشهدها اليوم كمثال التي تركت آثارها على جسد أمننا القومي، العراق بوابة العرب الشرقية خرج من معادلة ذلك الأمن، ولحقت به بلاد الشام ولبنان وليبيا واليمن والصومال، وماذا بقي؟!
هذه هي حالة الأمن في زماننا هذا أصبح عليلاً بعد أن كان متعافيًا إلى حد كبير في القرن المنصرم، وبهذا فإن هذا (المريض) يواجه تحديات كل واحدة أكبر من سابقتها، وكلها مسلطة على جسد هذا الأمن الذي طالما حلمنا (بقوته).
من هذه التحديات الدولة العبرية عدو الأمس واليوم وستبقى رغم عمرها القصير في التاريخ إلا أنها أصبحت (قوة) كبرى بدعم أمريكي غير محدود تمتلك أكبر ترسانة عسكرية في الشرق الأوسط بتكنلوجيا متطورة، تعتبر امتدادًا للتكنولوجيا الأمريكية تحتضن أكثر من (300) رأس نووي، تدعمها صواريخ يبلغ مداها ما بين 1500 و4000 كيلو متر تستطيع حمل رؤوس نووية، وفي ميدان القوة التقليدية تمتلك أكثر من 4000 دبابة صناعة أمريكية وإسرائيلية، إضافة إلى 5500 مدرعة متطورة، 1400 طائرات مقاتلة واستطلاعية وبدون طيار و(4) غواصات، وسفن حربية ..الخ، وبتعريف عسكري مبسط تعتبر إسرائيل (قوة) عسكرية مدمرة.
التحدي الآخر والذي لا يقل خطورة عن (قوة) إسرائيل، بل قد يتفوق عليها في تهديده لأمن الأمة العربية، إيران التي لا يتجاوز عمر ثورة الخميني الخمسة عقود لتصبح دولته تهدد أمننا واستقرارنا بشكل مباشر وغير مباشر، فهي تملك منظومة صواريخ قصيرة المدى وبعيدة المدى، مدعومة بحوالي 8500 مدرعة (2480) راجمة صواريخ، (2100) مدفع ميداني، وأسطولها البحري يبلغ تعداده (398) قطعة بحرية، (29) غواصة و(6) فرقاطات إضافة إلى (20) سفينة دورية، (3) طرادات، طبقًا لإحصاءات 2021، وفي مجال قوتها الجوية فإن سلاحها الجوي يعود تاريخه إلى حقبة السبعينيات والثمانينيات، ورغم أن هذا سلاح قديم إلا أنه لا يمكن التقليل من (قوة) طهران وتهديدها لأمننا العربي.
لعل الصورة تبدو واضحة التي تبرز حجم التحديات التي يواجهها حاضر ومستقبل هذا الأمن العربي الذي يعيش أحداثًا جسامًا تضرب بقوة في جسده، منها ما نوهنا عنه، يضاف إليه الإرهاب الأسود والوضع المتأزم في بلاد الرافدين وبلاد الشام وأرض البطل عمر المختار ولبنان أخيرًا وليس الأخير ما يحدث باليمن وكلها بأيادي إيرانية تديرها حروبًا بالوكالة لخلخلة الأمن القومي العربي وضربه في الصميم.
وليس أمام العرب خيار سوى بناء ترسانة (القوة) كما فعلت إسرائيل وإيران، وطريق الألف ميل يبدأ بخطوة، وهم (العرب) يملكون ثروات مهمة من نفط وغاز ومصادر طبيعية (وقوة) اقتصادية وثروات زراعية وسمكية، كلها ملك الدول باعتبارها دول (ريعية) وليست ضريبية.
إذًا بإمكان هذه الدول شراء السلاح من كل جهات الدنيا.
بل وشراء الـ(Know - how).
فحراج بيعهما مفتوح على كل من يملك المال.
وإذا صارت للعرب (قوة) رادعة شراءً وتصنيعًا بأيديهم لا بيد عَمر كما تفعل الدول الأخرى.
بهذا فإنها تحمي السيادة والحدود والثغور والشعوب ..الخ.
وتحمي الصديق ويحترمها العدو.
فهي (القوة) صاحبة الحلول السحرية لكل معضلة، لأنها العمود الفقري لسياسات الدولة الداخلية والخارجية وأمنها واستقرارها.
والله ولي التوفيق،،،
** **
- رئيس مركز الخليج العربي لدراسات واستشارات الطاقة