خالد بن حمد المالك
عانتْ أفغانستان خلال العقود الماضية من احتلالَيْن، الأول كان من الاتحاد السوفيتي (روسيا) خلال الفترة من 15 مايو 1988م وحتى 2 فبراير 1989م، والثاني كان من الولايات المتحدة الأمريكية خلال الفترة من 7 أكتوبر 2001م وحتى اكتمال انسحابها في 20 أغسطس 2021م تقريباً، وبين هذين الاحتلالَيْن حكمتْ طالبان أفغانستان في 27 سبتمبر 1996م معلنةً قيام الإمارة الإسلامية، ونقل العاصمة من كابل إلى قندهار، واستمرت في الحُكْم إلى أن أُطيح بها بغزو القوات الأمريكية.
* *
خلال الاحتلالَيْن وما قبلهما، وحتى خلال فترة حُكم طالبان السابق عانى المواطنون من ضياع كل الفرص لبناء الدولة، وتهيئة الظروف المناسبة لتقديم الخدمات الصحية والتعليمية وتحسين مستوى المعيشة لهم؛ فيما كانت لغة السلاح والقتال هي السائدة، بل إن المناخ الذي ساد أجواء أفغانستان ساعد على تنامي تجارة المخدرات، وأعاق أي تنمية كان يُفترض أن تشهدها البلاد لما تتمتع به من مخزون من الثروات التي ظلت إلى اليوم في باطن الأرض دون أن يُستَفاد منها.
* *
كانت المفاجأة المدوية في السرعة التي سقطت فيها أفغانستان بما فيها العاصمة كابل في أيدي طالبان، بينما كانت الولايات المتحدة الأمريكية تضع نهاية لانسحابها وِفقَ البرنامج الزمني المحدد، إلى درجة أن حركة طالبان -وِفقَ ما تحدث به بعض مسؤوليها- فوجئوا بانتصارهم السريع دون قتال، وهو ما صادق عليه الرئيس الأمريكي الذي قال: لقد انهار الجيش الذي درَّبناه وترك أسلحته، ولم يكن يُتَصور أن يتم ذلك خلال أحد عشر يوماً.
* *
من بين التداعيات -وهي كثيرة- لهذا الانسحاب تراجع شعبية الرئيس الأمريكي بايدن بنسبة 7 % وِفقَ تقديرات لبعض المؤسسات المعتَبرة في رصد الآراء وتقييمها لردود الفعل السلبية لهذا الانسحاب غير المنظم من أفغانستان، والخوف من أن تكون لهذا الانسحاب تداعيات في عدم الاستقرار في البلاد، وانتشار الفوضى، ووجود خلافات بين التنظيمات الأفغانية، ما يعني الاستمرار في دوامة الخلافات، وبالتالي غياب الأمن، وتفشي الفساد، مع أن ما تحدَّث به مسؤولو طالبان فيه تطمين للمواطنين وللعالم يخالف هذه التوقعات المتشائمة.
* *
من أهم التداعيات عن الحالة في أفغانستان انقسام دول العالم في مواقعها، وحجم تعاونها، وتحليلاتها للشأن الأفغاني في ظل سيطرة طالبان على السلطة في البلاد، فالصين تعلن عن بدء صداقتها لطالبان، ومثلها تتحدث روسيا عن استعدادها للعمل مع طالبان، ولا تبتعد عن هذا التوجه كل من إيران وتركيا لمصالح سياسية وأمنية واقتصادية تتطلع إليها في مثل هذا التعاون.
* *
في مقابل ذلك، وضمن هذه التداعيات، فإن دول الغرب وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، تتحدث عن مخاوف من أن عودة طالبان إلى الحكم سيصاحبه حِرمان المرأة من حقوقها، وغياب لحقوق الإنسان، وامتداداً بأنها ستكون حاضنةً للإرهابيين، وما إلى ذلك من التوقعات التي فندتها طالبان في تصريحات صدرت عن عدد من مسؤوليها، أكَّدوا فيها احترامهم لحقوق المرأة، ولكل المواثيق الدولية، وأنَّ جميع من عمل مع النظام السابق سوف يشملهم العفو العام والعمل مع النظام الجديد، فاتحين بذلك صفحة جديدة لسياساتهم الداخلية والخارجية.
* *
لكن الأهم والذي يجب أن نتوقف عنده كثيراً، هو ما كان من رد فعل عاقل وحكيم في الموقف من التطورات في أفغانستان، وأعني بذلك تحديداً موقف المملكة والذي يتمثَّل في ما تم إيضاحه من وزارة الخارجية وأكد عليه مجلس الوزراء من أن المملكة العربية السعودية تتابع باهتمام الأحداث الجارية في أفغانستان الشقيقة، وتُعرب عن أملها في استقرار الأوضاع بأسرع وقت، وانطلاقاً من المبادئ الإسلامية السمحة، وعملاً بقول المولى سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخوة}، فإن حكومة المملكة العربية السعودية تأمل أن تعمل حركة طالبان وكل الأطراف الأفغانية على حفظ الأمن والاستقرار والأرواح والممتلكات، وتؤكد في الوقت ذاته وقوفها إلى جانب الشعب الأفغاني الشقيق وخياراته التي يقرها بنفسه دون تدخل من أحد.
* *
وضمن التداعيات للانتصار الطالباني، وعودة الحركة لحكم البلاد من جديد، فقد أعلنت أمريكا تجميد 95 مليار دولار تمثل الأرصدة الأفغانية لديها، وهناك إجراءات لمنع أفغانستان من السحب من صندوق النقد الدولي، فقد أعلن الصندوق تعليق مساعداته لأفغانستان، وبينما أعلن الاتحاد الأوروبي عن أنه لن يدفع مساعدات إغاثية لأفغانستان حتى يرى شكل الحكومة، فقد أعلن رئيس وزراء بريطانيا عن أن بلاده سوف ترفع مساعداتها لتصل إلى 286 مليون جنيه استرليني.
* *
الرئيس الأمريكي يقول ردَّاً على منتقديه من الأمريكيين بشأن الانسحاب من أفغانستان بأنه لا فائدة من الاستمرار حتى ولو بقينا عشرين سنة أخرى، فتداعيات الانسحاب في حدوث فوضى لن تتغير، إذ لا توجد طريقة أخرى للانسحاب من دون فوضى، ووزير الدفاع الأمريكي يقول إن هناك خط اتصال مفتوحًا مع طالبان، وأن طالبان سوف تُحاسب على تعهداتها.
* *
بقي أن أقول: كلنا أمل وتطلع وانتظار بولادة أفغانستان جديدة دون احتلال أو تدخل من أي أحد، نظام عادل يقوم على احترام المواطن، وخدمته في كل مجال وميدان، نظام ينهي الفوضى، ويقضي على الفساد، ولا تكون البلاد مأوى للإرهابيين، أو مصدرًا للإرهاب، وأن ينعم المواطنون بالأمن والاستقرار، وتوفير الحياة الحرة الكريمة لهم، نظام مؤسسي يلبي رغبة المواطنين ويحترم حقوقهم، ولا يسمح لأي احتلال في المستقبل.