«الجزيرة» - سالم اليامي:
في الوقت الذي بدأت تلوح في الأفق بوادر ومؤشرات إيجابية على تعافي الاقتصاد العالمي من تبعات فيروس كورونا «كوفيد 19»، خاصة في ظل تنامي عدد الذين تلقوا اللقاحات، وتسارع وتيرة السفر وعودة الأنشطة الصناعية وحركة السفر عالميا بشكل تدريجي، إلا أن الترقب لما ستؤول إليه نهاية حقبة الفيروس ما زال سيد الموقف وإن بصورة أقل حدة من السابق، فمع تطور أساليب ووسائل مكافحة الفيروس للحد من انتشاره إلا أن التداعيات ما زالت مستمرة على المدى القريب، والمطمئن بحسب التوقعات الاقتصادية المعلنة أن العالم بصدد انتعاش اقتصادي حقيقي وارتفاعات في معدلات النمو خلال العام المقبل على نحو كبير وبنسب عالية. ووفق التقارير المتداولة فإن الاقتصاديات الخليجية وعلى رأسها الاقتصاد السعودي بصدد انتعاش مدعوم بارتفاع الطلب على النفط واستقرار أسعاره، ما يؤكد استمرار الحاجة العالمية إلى النفط باعتباره أهم مكونات الطاقة.
كورونا.. الأزمة والأثر
وفي حديثه لـ«الجزيرة» قال الأكاديمي والكاتب الاقتصادي الدكتور عبدالحفيظ محبوب: إن جائحة كورونا أحدثت أزمة عميقة، توفي فيها أكثر من 4 ملايين، ونحو 175 مليون إصابة حول العالم، مسببا الانكماش الاقتصادي الأكبر منذ الانهيار الكبير، وصل إلى 3.3 في المائة في الناتج المحلي، وهو أكبر انكماش منذ الكساد الكبير الأمريكي، تسبب بانخفاض في أسعار الخامات إلى درجة تصل إلى الأسعار السالبة نحو -40 دولارا للبرميل في حالة نفط تكساس.
أشار صندوق النقد الدولي أنه يتوقع نمو الاقتصاد العالمي بنسبة 6 في المائة خلال 2021، التي من شأنها أن تكون أسرع وتيرة نمو في 4 عقود، ورفع الاتحاد الأوربي توقعاته لنمو اقتصاد الكتلة إلى 4.8 في المائة لهذا العام، بدلا من التقديرات السابقة والبالغة 4.2 في المائة.
وأردف الدكتور محبوب: ومن المتوقع أن ينمو اقتصاد بكين بشكل أسرع العام الجاري، لتبلغ وتيرة التوسع 8 في المائة، كما ذكرت ستريت جورنال، ووفق صحيفة ستريت جورنال إن التباين في الاستجابة لوباء كورونا بين الولايات المتحدة والصين، يعطي الاقتصاد الأمريكي التفوق في النمو على حساب نظيره الصيني، وبينت الصحيفة الأمريكية أن الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة ارتفع بنسبة 12.2 بالمائة في الربع الثاني لهذا العام 2021 مقارنة بالعام الذي يسبقه، متجاوزا مكاسب الصين البالغة 7.9 في المائة، على الرغم من أن الاقتصاد الأمريكي استغرق وقتا أطول لإصلاح نفسه من الاقتصاد الصيني جراء جائحة كورونا، إلا أن الولايات المتحدة ضخت موارد أكثر ساهمت في التعافي، وبحسب عدد من الاقتصاديين فإن التفوق الأمريكي هذه أول فترة مستدامة منذ عام 1990 على الأقل نما فيها الاقتصاد الأمريكي بشكل أسرع من الصين. فيما خفض بنك التنمية الآسيوي توقعاته لنمو الاقتصاد في الدول الآسيوية الناشئة للعام الجاري إلى 5.3 في المائة مقارنة بتوقعاته في أبريل 2021 بنمو 7.2 في المائة، ونمو اقتصاد التكتل الآسيوي إلى 5.4 في المائة في 2022، كما خفض توقعاته عن نمو الاقتصاد الهندي إلى 10 في المائة هذا العام، فيما رفع توقعاته لنمو اقتصاد سنغافورة إلى 3 في المائة.
الاقتصاد الخليجي..حتمية الانتعاش
وقال الدكتور عبدالحفيظ: بالنسبة لاقتصادات الخليج فإن البنك الدولي توقع انتعاشا بعد انكماش الجائحة وأن تحقق دول مجلس التعاون نموا كليا نسبته 2.2 في المائة في 2021، وهذا النمو يدعمه تعافي الاقتصاد العالمي بسبب انتعاش الطلب العالمي على النفط وأسعاره العالمية، مرجحا البنك أن ينمو إجمالي الناتج المحلي في السعودية بنسبة 2.4 في المائة ومن المتوقع أن يبلغ معدل النمو 3 في المائة، وأشار البنك الدولي في تقريره عن السعودية بعنوان ( جائحة كورونا والطريق إلى التنويع الاقتصادي ) إشارة إلى الجهود السعودي في تحقيق رؤية المملكة 2030.
وأضاف الدكتور عبدالحفيظ محبوب: هناك اقتصاديون يرون أن ارتفاع أسعار النفط جاء في الوقت الذي يكافح فيه الاقتصاد العالمي للخروج من عثرته الناتجة عن التداعيات السلبية لفيروس كورونا، وهو ما قد يزيد بعض التحديات على اقتصادات الدول، وأن له تأثيرا كبيرا على تعافي الاقتصاد العالمي، وأن ارتفاع أسعار النفط والسلع الأساسية الأخرى سيدفع معدل التضخم إلى الارتفاع إلى أعلى المستويات التي توقعها الاتحاد الأوربي وفق تكهنات سابقة، لكن في السياق ذاته استطاعت الولايات المتحدة أن تكون منتجا للنفط أكبر بكثير مما كانت عليه في الماضي، نتيجة ارتفاع عمليات التنقيب الصخري على مدى العقدين الماضيين، ما يعني أن المنتجين الأمريكيين كما المنتجين الآخرين الذين عانوا انخفاض أسعار النفط جراء كورونا يستفيدون الآن من ارتفاع الأسعار.
وقال الدكتور محبوب: من المهم جدا أن بنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك فسر أن الصعود الذي شهدته أسعار النفط كان مدفوعا بزيادة الطلب القوي على النفط الخام، وفق نمو مرن عكس المشكلات الناتجة عن مشكلات الإمدادات، بسبب أن السعودية تقود أسواق النفط، لا نتيجة نقص المعروض كما يدعي البعض، خصوصا ممن يراهنون على أن النفط تلقى ضربة هائلة لصالح الطاقة النظيفة، لكن ما حدث العكس، وخسر مثل هؤلاء رهانهم، لأن العالم لا يزال يحتاج إلى النفط، حيث لا زالت الطاقة المتجددة تلبي فقط 20 في المائة من احتياجات أوربا من الكهرباء، مقابل نحو 10 في المائة عام 2004، فيما بقية القطاعات الأخرى لا زالت تعتمد على النفط اعتمادا كليا حتى الآن. هذا من جانب، ومن جانب أكثر أهمية أن الاقتصادات المتقدمة في الوقت الراهن أقل تأثرا بزيادات أسعار النفط مما كان عليه قبل عقود، وهو ما يرجع إلى أن الخدمات التي تستهلك كميات أقل من النفط مقارنة بالصناعات الثقيلة، كذلك نمو الاقتصادات المتقدمة وزيادة الاستهلاك سيساعدان العالم على استيعاب الكثير من هذه الزيادات.
وأردف: توقع مورغان ستانلي أن يرتفع المؤشر الذي يرصد عبء النفط، أو تكلفته بوصفها نسبة من الناتج المحلي الإجمالي إلى 2.8 في المائة العام الجاري على افتراض متوسط سعر برميل النفط عند 75 دولارا، وهو لا يزال أقل من المتوسط طويل الأجل والبالغ 3.2 في المائة، ويرى البنك الأمريكي أنه حال وصول سعر برميل النفط إلى 85 دولارا سيرتفع عبء النفط العالمي قرب المتوسط طويل الأجل، ولم يرتفع فوق هذا المتوسط طويل الأجل فقط كان عام 2005، رغم ذلك استطاعت الاقتصادات الصمود أمام تأثير ارتفاع أسعار النفط بدعم النمو العالمي القوي وقتها.
دور المملكة وفرص الاستدامة
وبين الدكتور عبدالحفيظ محبوب أن مؤتمر مبادرة مستقبل الاستثمار الذي عقد في الرياض كأكبر تجمع اقتصادي في الشرق الأوسط في 2021 أعطى معطيات تفاؤلية بمستقبل الاقتصاد العالمي باعتبار أن المملكة قادت رئاسة مجموعة العشرين لعام 2020، حيث أكد هذا المؤتمر على أهمية اعتماد التغيرات الجديدة التي يفرضها واقع ما بعد جائحة كورونا المستجد، والتركيز على الاستراتيجيات المتوازنة في الاستثمار للعبور إلى نمو اقتصادي ونهضة منتظرة. حيث يتحدث المؤتمر عن النهضة الاقتصادية الجديدة بمشاركة أكثر من 140 متحدثا بارزا مركزين على ملف النمو الاقتصادي المتوازي مع استراتيجية تعمل وفق أولوية تغير المناخ والاستدامة والاستثمار في البيئة، والذين أكدوا على أن التضخم والفائدة يمثلان التحدي الأكبر في المرحلة المقبلة. ورغم أن العالم يحتاج إلى المزيد من الطاقة خلال السنوات المقبلة كما تبين من زيادة الطلب بعد الجائحة، مع أهمية تقليل الانبعاثات الكربونية والدفع نحو التعامل مع مصادر الطاقة المختلفة، مع تأكيد وزير الطاقة السعودي الأمير عبد العزيز بن سلمان على أن هناك مشروعات ضخمة في قطاع الطاقة تجري في السعودية، وستحذو المملكة حذو ألمانيا التي ستعتمد على الطاقة النظيفة بنسبة 55 في المائة، مع العمل على إعادة تدوير الانبعاثات وتحويلها إلى مواد مفيدة، حيث حققت أرامكو وسابك كثيرا من المستهدفات في مجال تقليل الانبعاثات مقارنة بنظرائهما، حيث لدى السعودية يقظة حول التغير المناخي، وهناك سجل حافل بتقليل الانبعاثات، والسعودية ملتزمة بحياديتها، وتتجه السعودية نحو استخدام الكربون وإضافته إلى الاقتصاد الدائري، والتمكن من تحويل الهيدروكربون، بل استغلال تلك الانبعاثات بدلا من هدرها من خلال تدويرها وتحويلها لمنتجات جديدة.
ولفت الدكتور عبدالحفيظ محبوب إلى أن جائحة كورونا غيرت مفهوم الاقتصاد في أنحاء العالم الذي يشهد فرصة هائلة وعهدا لنهضة اقتصادية جديدة، حيث أظهرت أن هناك فرصا استثمارية في مختلف القطاعات التكنولوجية. وتبنت المملكة مشروع «ذا لاين» الذي أطلقة الأمير محمد بن سلمان ولي العهد الذي هو بمثابة فكرة ثورية في عالم التصميم الحضري للمدن، حيث سيعمل المشروع بالطاقة المتجددة بنسبة 100 في المائة الذي سيساهم في إعادة تشكيل المجتمع الحضري، ومن مستهدفاته أن يجعل الأجيال المقبلة تستمتع بالطبيعة ومن حولهم المدن الذكية التي تعمل بالطاقة المتجددة. والمشاريع السعودية الجديدة التي تتوافق مع التوجه العالمي الجديد جعلت الرئيس التنفيذي لبلاك روك لأكبر شركة في إدارة الأصول في العالم، يبدي تفاؤله بشأن الاستثمارات المرتبطة بتغير المناخ في المدى الطويل. والمملكة لم تتوقف عند مسألة التنوع الاقتصادي بسبب أن أسعار النفط انخفضت بسبب جائحة كورنا من 64 دولارا للبرميل في بداية 2020 إلى 23 دولارا للبرميل في أبريل 2020 الذي نتج عنه ضغط كبير على المواقف المالية، بل تعدت هذا التوجه إلى مواكبة اقتصاد المستقبل، وتشارك في رفع الطاقة المتجددة، والتحسينات في كفاءة الطاقة وتخزينها. والتوجه نحو القطاعات التكنولوجية واقتصاد المعرفة للتحول إلى التصنيع لتنافس المصنعين المنخفضي التكلفة في آسيا، بجانب تحولها إلى مركز للخدمات المالية واللوجستية مستثمرة موقعها الجغرافي الفريد في العالم، إلى جانب تأمين بيئة ممكنة للأعمال وريادة الأعمال من أجل انتشال القطاع الخاص، وإعادة هيكلته بما يتماشى مع التحولات الجديدة، ودمجه في النشاطات الاقتصادية الجديدة الجارية التي تعتمد على مناطق التجارة الحرة، والمناطق الاقتصادية التي تعمل بدرجات متفاوتة خارج التشوهات التنظيمية في القطاع الخاص، وهي مناطق قادرة على جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة، وتعمل كمراكز للابتكار لتعزيز تنافسة وديناميكية القطاع الخاص القادر على توليد الفرص الوظيفية، وتوليد اقتصاد مستدام، وينمو بشكل طبيعي بعيدا عن الإعانات، والريوع الاقتصادية من خلال العقود الحكومية والتراخيص الحصرية، ويتحول إلى بيئة جاهزة للتوظيف بدلا من تحمل الحكومة 52 من إيراداتها رواتب لموظفيها في القطاع العام تؤثر على وظيفتها الأساسية.