أحمد بن عبدالله الحسين
جمال الدين الأفغاني برز على مسرح الأحداث الثلث الأخير من القرن التاسع عشر الميلادي كأحد رجال التاريخ، وانقسم المؤرخون فيه إلى التالي؛
ذهب بعضهم إلى القول بأن الأفغاني ليس أفغانياً. بل هو إيراني وأنه ولد في قرية أسد آباد التي هي من قرى همدان الإيرانية.
وآخرون ذكروا أنه أفغاني حقا ولد في قرية أسعد آباد التي هي من قرى بلدة كنر القريبة من كابل.
قرية أسد آباد
هنالك أُناس يدَّعون أنهم أقرباء جمال الدين، حيث صدر في برلين عام 1926م كتاب بالفارسية في سيرة الأفغاني بقلم الميرزا لطف الله خان، يدعي فيه أنه ابن أخت الأفغاني، وأنه اجتمع به في طهران عند ذهاب الأفغاني إليها عام 1886م.
الكتاب يحتوي على صور فوتوغرافية واضحة تجمع الأفغاني والميرزا لطف الله خان مع زمرة رجال الدين الإيرانيين، وقد تُرجم الكتاب إلى العربية عام 1957م.
وكذلك هذا التوثيق تم متابعته بالزيارة والاستقصاء من بعض المهتمين في أسد آباد، وهذا هو الذي يُرجح نسب الأفغاني عند الكثير.
أما نشأة جمال الدين الأفغاني
فهو ولد عام 1838م في قرية أسد آباد، وحين بلغ الثانية عشرة سافر بصحبة والده السيد صفدر إلى النجف في العراق. حيث تركه أبوه هناك للدراسة بضع عشرة سنة، تخللها فترة مدتها سنة وبضعة أشهر سافر فيها إلى الهند حيث درس فيها مبادئ العلوم الحديثة والأديان.
بالمناسبة اسم صفدر اسم فارسي مركب من كلمتين صف ودر ومعناها ممزق الصفوف.
النجف
كانت حينها تتميز بالدراسات الفلسفية والكلامية والأصولية، حيث تَشبّع الأفغاني بهذا المناخ الفكري. بعدها غادر جمال الدين النجف عام 1865م إلى طهران ثم خُراسان وبعدها بلاد الأفغان. كانت حينها أفغانستان في فوضى وتنازع على الحكم والنفوذ بين بريطانيا وروسيا. وإيران كانت إلى جانب روسيا.
استطاع الأفغاني حينها أن يدخل في حاشية الأمير محمد أعظم خان وهو موالي لإيران وروسيا، حيث ارتفعت منزلة الأفغاني عنده ليجعله الوزير الأول يأخذ برأيه. والمظنون أن تلك الفترة دخلت صفة الأفغاني عليه بل اتخذ زي الأفغاني في لباسه وهذا ما جعل تماسه في جولاته في الأقطار التي زارها ومكث فيها على أنه أفغاني.
جمال الدين الأفغاني
الموالي إلى الحاكم محمد أعظم خان الذي لم يدم الأمر له حيث هُزم الأمير محمد من قبل خصمه الأمير شير علي خان الذي أخذ السلطة. بعدها دخلت الريبة عند جمال الدين حول مستقبله فاستأذن الأفغاني شير علي للحج مروراً إلى السويس. ومن هناك ذهب إلى القاهرة فأقام فيها أربعين يوماً ثم غادرها إلى إسطنبول فالتقى الصدر الأعظم عالي باشا. بعدها رجع إلى مصر عام 1871م حيث نال حظوة عند رئيس الوزراء رياض باشا والخديوي إسماعيل باشا.
الأفغاني
في كل مكان يذهب إليه كان ذا مقدرة لاجتذاب الأصحاب والمريدين لما يملكه من مهارات الخطابة والكتابة عنده التي لم تخل من حده، وجدليته الفلسفية ارتكزت على فلسفة ابن سينا وابن رشد.
تلك الأطروحات كانت تثير غضب آخرين سواء حكاماً أو ساسة وعلماء لتركزيها على مفاهيم الإصلاح في الحكم، وضرورة إقامة دستور وقانون وبعض المواضيع حول الأديان.
أحد أهم هؤلاء المعجبين بجمال الدين الأفغاني في مصر هو الشيخ محمد عبده الذي طالما ذكره وكتب عنه وشاركه في طموحاته.
الأفغاني والماسونية
عام 1875م قدم جمال الدين طلباً إلى المحفل الماسوني بالقاهرة ليكون عضوا، حيث تم قبول طلبه ليبلغ عام 1878م إلى مرتبة الرئاسة لتمكنه وذكائه في التأثير النخبوي. كان دخول الأفغاني في الماسونية وارتقائه فيها من جملة الأسباب التي رفعت شأنه ونفوذه في الدوائر الحكومية وأوساط الطبقة العالية في مصر. ذلك النفوذ زاد من طموح الأفغاني إلى أن يخوض بالسياسة ويطالب بالإصلاح الحكومي والدستوري. وهذا سبب الخلاف له مع حكم الخديوي.
بدأ في عهد إسماعيل باشا، ثم استمر مع الخديوي الجديد توفيق باشا. ونتيجة ذلك أُمر بالقبض على جمال الدين عام 1879م، حيث تم نفيه إلى الهند في مدينة حيدر آباد، حيث بقى فيها ثلاث سنوات بعدها ذهب إلى لندن ثم باريس التي استقر فيها.
الأفغاني ومحمد عبده
خلال وجود الأفغاني في فرنسا استدعى تلميذه الشيخ محمد عبده الذي استجاب لدعوته والتحق به. وفي باريس تعاون الرجلان على إصدار مجلة العروة الوثقى عام 1884م وكان الشيخ محمد عبده هو الذي يحررها بقلمه، بينما أفكار المجلة من نتاج الأفغاني، وصارت المجلة تُرسل بالبريد إلى مختلف أقطار العالم الإسلامي.
صدر من المجلة ثمانية عشر عدداً ثم توقفت لخلاف بين الأفغاني ومحمد عبده لتوجه المجلة واستغراقها بالسياسة، وهذا دفع محمد عبده إلى مغادرة باريس إلى بيروت.
فلم يبق بعدها الأفغاني في باريس وذهب إلى لندن فلم يمكث فيها طويلاً ويُذكر أنه التقى باللورد راندولف تشرشل الذي كان حينها يتولى وزارة شؤون الهند، بعدها رجع جمال الدين إلى إيران بدعوة من الشاه ناصر الدين.
الأفغاني في إيران
خلع زيه الأفغاني حين دخوله إيران خلاف زيه القديم الذي اشتهر بِه. ولبس عمامة سوداء وعباءة على كتفه مثل العلماء الإيرانيين، ولقب نفسه بالحسيني إشارة إلى أنه من سلالة الإمام الحسين بن علي. لم يمض على الأفغاني في طهران سوى مدة قصيرة حتى بدا النفور بينه وبين الشاه ناصر الدين، حيث أطلق الأفغاني لسانه في الشاه ومثالبه، وطالب باقامه دستور في إيران. ولهذا تم القبض عليه وإخراجه إلى الحدود العراقية. تسلمته الشرطة العراقية وأتوا بِه إلى بغداد حيث مكث فيها ثلاثة أشهر التقى فيها والي بغداد سري باشا، وكذلك زار البصرة فاحتفى به والي البصرة هدايت باشا. بعدها طلب الأفغاني الإذن وهو في البصرة بالسفر إلى لندن وذلك عام 1891م حيث التقى هناك برجل إيراني من أصول أرمنية اسمه مَلِكَم خان وكان له جريدة اسمها القانون تهاجم الشاه في إيران، فتعاون الأفغاني معه لتحريض الشعب الإيراني ضد ناصر شاه.
الأفغاني والسلطان عبدالحميد
أواخر القرن التاسع عشر تأسست في لندن جمعية اسمها جمعية الشورى العثمانية كان من مؤسسيها رفيق العظم ومحمد رشيد رضا وأسهم أتراك وشركس وأرمن فيها. هدفها مقاومة سلطة السلطان عبدالحميد ومناديه بإقامة دستور في البلاد العثمانية.
في تلك الملابسات دعا السلطان عبدالحميد الأفغاني راغب به أن يكون وسيطا لاجتذاب الشيعة في العراق وإيران بمفهوم الجامعة الإسلامية ورتق الفتق بين طوائف المسلمين.
استجاب الأفغاني لذلك وبذل جهده وجذب مناصرين لهذه الفكرة وتأييد السلطان عبدالحميد في دعوته للجامعة الإسلامية. جمال الدين في اسطنبول لقى حفاوة حيث انتهز أثناء مكوثه فيها الفرصة باجتذاب المفكرين والكبراء لما يتمتع به من خطابات ذات أثر مع استمراره بذم الشاه في إيران.
ناصر الدين شاه لم يكن مسروراً بجهد الأفغاني مع السلطان عبدالحميد في الدعوة للجامعة الإسلامية بل تعقب الشاه المناصرين الإيرانيين لهذه الفكرة في إسطنبول، لأنها تصب بتمكين السلطنة العثمانية على حساب نفوذ إيران وتطلعات الشاه.
اغتيال الشاه ناصر الدين
تم عام 1896م على يد محمد رضا كرماني أحد مناصرين جمال الدين الأفغاني. مما أدى إلى طلب الحكومة الإيرانية من الحكومة العثمانية تسليم الأفغاني لأنه متهم بالتحريض على قتل الشاه، فرفضت الحكومة العثمانية تسليمها الأفغاني.
لم يأمن ذلك فذهب للسفارة البريطانية طالبا حمايته. مما أدى إلى إرسال السلطان عبدالحميد حاجبه لتغير موقفها لأن في ذلك إهانة للسلطنة لعدم حمايته. استجاب الأفغاني لطلب السلطان بعدها أصاب الفتور علاقة جمال الدين مع السلطان. وهجر جمال الدين الكثير ممن كانوا يتواصلون معه.
نهاية الأفغاني أنه مات عام 1897م من جراء داء السرطان في فكه لم تنجح العمليات الطبية معه، فدفن في مقبرة شيخلر مزارلغي أي مقبرة المشايخ في إسطنبول. تم نقل جثمانه بعدها بطلب من الحكومة الأفغانية عام 1944م وكان حينها الملك في أفغانستان محمد ظاهر شاه فدُفن في كابل في ضريح فخم يتوسط جامعة كابل.
جمال الدين
تعددت ألقابه فكان يُلقب بالأفغاني في مصر وتركيا، بينما الحسيني في إيران. وحينما كُشفت أوراقه المحفوظة اتخذ ألقاباً مثل الكابلي والطوسي والأسعد آبادي. والمظنون أن تلك الألقاب كانت تقربه للمحيط الذي هو فيه بما في ذلك اللباس حيث لَبْس عمامة بيضاء في مصر وتركيا، والعمامة السوداء في إيران والعراق، ولبس الطربوش في أوروبا، والعقال والكوفية في الحجاز.
أما مذهبه في الاعتقاد
فهو مرن يتماشى مع تنوع مُريديه من الطوائف والأديان، حيث تعدد المتأثرين بفكره. وهنالك قرائن في طريقة فكر الأفغاني أنه متأثر بمحيي الدين بن عربي، الذي كان يعد الانتماء الديني أساسه الحب، وأن الناس يختلفون في إدراك معبودهم تبعا لتفاوت مداركهم وعقولهم.
ختاماً
الأفغاني يظنه بعض النقاد أنه تسامى عن معاني التعصب الضيق، وعنده نزعة توفيقية في آرائه متخذا منهج الفيلسوف ابن رشد في التوفيق بين المعقول والمنقول. الأفغاني شخصيه أحدثت أثراً وخبراً، وحملت مناقب ومثالب أحاطت بها أسرار وغموض، ودفع جموح طموحاته إلى خصوم كُثر، طُويت صفحته وما زال الجدل حولها.