د.محمد بن عبدالرحمن البشر
في مقال سابق، ذكرنا أن أبا علي محمد بن الحسن بن المظفر الحاتمي، قد عاش في العصر العباسي في زمن لم يكن للعباسيين من دور سوى اسمهم، وكان البويهيون مسيطرين على بغداد، والحمدانيون في الموصل وحلب وجزء من الأناضول، وقد ولد الحاتمي في عام 310 هجرية، بينما كانت ولادة المتنبي في الكوفة عام 303 هجرية، وكما قلنا سابقاً فقد ألف الحاتمي كتاباً عن المتنبي سماه «الرسالة الموضحة في ذكر سرقات المتنبي وساقط شعره».
يدعي الحاتمي أنه كتب هذه الرسالة بطلب من المهلبي وزير معز الدولة، لأن المتنبي تثاقل عن خدمته، وأنه أساء التواصل مع الوزير، وأن المتنبي لم يوفق في استمطار كفه، وكانت واكفة البنان منهلة اللجين والعقيان، ولهذا فإن الوزير قد وكل الحاتمي بتتبع عورات المتنبي، وإحواجه إلى مفارقة العراق، وفي الغالب أن المتنبي لم يمدح معز الدولة، ولا المهلي، لأنه يرى أنهم لا يستحقون مدحه، فهو المغرور والمتكبر بطبعه التي ينظر أن مدحه إياهم يقلل من شأنه، لأنه لا يمدح إلاّ الملوك أو من في حكمهم، وهو يعلم أن أي قصيدة يقولها يتناقلها الناس، وكأنها قد أرسلت عبر الواتس آب في زماننا هذا، أو بثت عبر التلفاز ونحوه، ويرى أن المهلي وعز الدولة غير جديرين بمدحه.
وفي أصدق الأقوال أن الحاتمي غفر الله له مشتهراً بالكذب، ولهذا فإنه ابتدع ذلك الطلب من المهلي، وأردف على ذلك بصنع قصة درامية للقاء تم بينه وبين المتنبي بحضور جمع من العلماء والأدباء والقضاة، وأنه قد أقحم المتنبي، ونقد شعره، وأبان سرقاته من الحكماء السابقين مثل أرسطوطاليس، وأفلاطون وغيرهم، وهذا القول وإن كان كاذباً، فقد بين لنا أن هناك اطلاع واسع من قبل أدباء ذلك العصر، ومنهم الحاتمي والمتنبي، على كتب علوم اليونان السابقة، وأن علومهم سائدة آنذاك، لاسيما في مجال علم المنطق والحكمة والجدل، إضافة إلى العلوم التطبيقية.
وقد وضع سيناريو بين من خلاله مثالب المتنبي الشعرية، وأيضاً بين قدراته اللغوية والشعرية، وما حباه الله من ملكه الحفظ والقدرة على الجدل والنقد، وصنع في ذلك السيناريو أربعة مجالس وفي ظني الذي قد يصل إلى اليقين أنه اخترعها وابتدعها لأنه في الأساس مشهور غفر الله له بالكذب، وأنه لا يتورع عن ذلك، كان أول تلك المجالس في منزل المتنبي، أما المجلس الثاني والثالث فكان في وجود الوزير المهلبي، والرابع فكان بطلب من الوزير المهلبي للحديث عن شعر الطائيين.
والحقيقة أن المتنبي لن يسمح لمثله أصلاً بالمناقشة والنقد في حضوره، وهو المتكبر، المغرور، الواثق من شعره، المشهور به لدى الخاصة والعامة، والمتنبي لا يأبه بالحاتمي أو المهلبي، لأنه يرى نفسه أكبر منهم قدراً.
لكن من الجميل أن الحاتمي أنه قد راجع نفسه بعد حين، وأخذ العدل بيده على قول الصواب، فراجع نفسه، أو ربما أنه خاف من ربه فيما ادعاه كذباً وزوراً على المتنبي، والإنسان أحياناً قد يخطئ، ثم تأتيه نفحة إيمانية، أو إنسانية، فيعود إلى صوابه فيلتمس، المكامن للتكفير عن هفواته، فقال في ذلك: «والذي بعثني على تصنيف هذه الألفاظ المنطقية، والآراء الفلسفية الذي أخذها أبو الطيب، منافرة خصومي فيه لما رأيت من نفور عقولهم عنه، وتصغيرهم لقدره، فإن كان ذلك من فحص ونظر وبحث، فقد أغرق في درس العلوم، وإن يك ذلك منه على سبيل الاتفاق، فقد زاد الفلاسفة بالإيجاز، والبلاغة والألفاظ الغريبة، وهو في الحالتين على غاية من الفضل وسبيل نهاية من النبل».
هكذا كان قوله عن المتنبي سابقاً ولاحقاً، ولاشك أن كلاهما بارع في اللغة والحفظ والشعر، والجدل في اللغة مستمر دائماً، وهناك مدارس قائمة منذ زمن بعيد، وصراع الكوفيين والبصريين حول ذلك كثير، ونحن نعلم أن المتنبي كوفي في أصله ومدرسته، وأضاف إليهما ما قضاه من سنين في الصحراء مختلطاً بالبادية يسمع منهم، ويحفظ أقوالهم وألفاظهم، شعراً ونثراً، ونقداً، وأمثالاً تقال على الألسن النقية في اللغة، لأنها لم تختلط بالألفاظ غير العربية الوافدة، بعد التوسع الإسلامي ودخول الناس فيه أفواجاً.
ومهما أخذ الحاتمي على المتنبي، وأنه يأخذ المعاني ممن سبقه من الشعراء، فإن المتنبي يظل رائعاً مميزاً، حتى وإن أخذ أو وافق المعنى الذي أراده، ما أراد غيره، فمثلاً أبو العتاهيه، يقول:
موتُ بعضِ الناسِ في الأرضِ
على بعضٍ فُتوحُ
فيوافق المتنبي هذا المعنى، أو يأخذه، ولا عيب في ذلك فيقول:
بِذا قَضَتِ الأَيّامُ مابَينَ أَهلِها
مَصائِبُ قَومٍ عِندَ قَومٍ فَوائِدُ
فالمتنبي كان رائعاً في سبكه ووصله إلى المعنى في نسج جميل، ولهذا فإن الشطر الثاني من البيت أصبح مثلاً يتداوله الناس في مجالسهم. هكذا كانت المجالس الأدبية والعلمية التي يتطارح فيها النحاة واللغويون والشعراء وغيرهم.