أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
بعد أن توجَّد أحمر الرأس، وذكر أن رائحة لمياءَ أطيب من العود الهندي: وقَّت ذلك بخلوته بها إذا نام حراسها، وقد جعلهم أعداءً وإن كانوا أهلها:
وقد عاد حُرّاسُ العِدا حول بيتها
لو انهمُ يُدعون ما استجمعوا نهضا
تساقوا بغيداق الكرا في حِما العدا
رقيب نجومٍ لم تذق عينه غُمضا
يرا الغُنمَ روق البيت حين يضمه
إليها وخوفُ القوم ينفضه نفضا
ليبلغ ريّا البَوصِ مهضومة الحشا
يبث لها الشكوى لتجزيَهُ القَرضا
وقد زعم الواشون أن لا أحبُّها
وأكذبُنا من ذاك في قيله غُضَّا
لقد يَمّتَت عندي للمياءَ أن يرا
عدوٌّ لها من بعد حُبّي لها بُغضا
قال أبو عبدالرحمن: يريد أن الحراس على بيت لمياء غشاهم النعاس، فنهضوا للنوم نهضة واحدة لا تتأتّا لهم هذه النهضة لو أن داعياً دعاهم غير داعي النوم.. وقد حذف الشاعر الواو قبل في من قوله: في حِما العِدا ضرورة وزنيّة.. وربما أنه في الإنشاد يقف عند لفظ الكرا قليلاً، لِيُعلم أن ما بعدها استِئناف.. وقد برهن على حبه مكذباً زعم الواشين بهذه المخاطرة وخوف الحراس ينفضه نفضاً.. والبَوص بفتح الباءِ العجيزة، وزعم الواشين هو مرجع الإشارة في قوله: وأكذبنا من ذاك.. وكلمة في قيله جاءت بين شرطتين، ولا معنى لذلك؛ لأنها ليست استداركاً ولا اعتراضاً، وجاءت القافية بالعين المهملة المفتوحة، ولا معنى لها يفهم في هذا السياق ألبتة، فهي تصحيف أو تطبيع، والصواب بالغين المعجمة المضمومة, أي تصيبه الغضاضة وهي المهانة والزجر في كل قول يقوله.. وفي آخر بيت يمتت فيستقيم الوزن بتحريك الميم والتاءِ الأُولى بعدها، ولا معنى لهذه الكلمة ألبتة في لغة العرب، ولعله يظهر من طي الخفاءِ مصادر خطية تراثية يُعلم بها الرسم الصحيح للكلمة.. وغمضا شكلت بفتح العين، والصواب ضمها.. وبين هذه الأبيات وبين التوجد الذي أسلفته بث الشكوى والمواجع، وذلك في قوله:
على كبدي من حب لمياءَ وقرة
صدوعٌ مقيمات.. تُهاض ولا توضا
إذا قلتُ يُبريها الصدود فتنمحي
تيمّمنَ وازدادت صدوعتُها غَمضا
إلى الله أشكو أن لوعات حبها
قديماً برت جسمي فلم تُبقِ لي نحضا
وأن قديمات المواعيد عندها
مخلدة الآمال تُرجا وما تُقضا
وأن ذوي الأضغان حفُّوا ببينها
من اجلي فهم صفٌّ يرى بعضهم بعضا
قال أبو عبدالرحمن: الوقرة الصدع في الحجر وأي عضو من الحيوان.. قال الزبيدي: (يقال في الصبر على المصيبة: كانت وقرة في صخرة.. يعني ثُلمة وهَزمة.. أي أنه احتمل المصيبة ولم تُأثِّر فيه إلى مثل تلك الهزمة في الصخرة).. انظر كتاب (تاج العروس) 7 /598.. وربما كانت وقره بالهاء، والضمير للحب، وما بعدها تفسير لها, وهذا ضعيف.. وقوله: صدوع مقيمات ليست بدلاً من وقرة، وليست استئنافاً، ولكنها معطوفة على وقرة، وحذف واو العطف ضرورة وزنيّة.. والعرب تقحم الواو أول البيت في البحر الطويل إنشاداً وكتابة لا غناءً.. وبعضهم يقحمها أول الشطر أيضاً.. وتهاض جملة فعلية وصف للكبد بمعنى تُكسَّر وتُهيَّج.. وتوضا تبرأ، وليس لها غير هذا المعنى المتكلَّف، فجعل الوضاءة براءة لأنها نظافة، وخفف الهمزة.. وأصل هذا الفعل المبني للمجهول تُوَضَّأُ، فخفف الضاد وسهل الهمزة.. وهذا التكلف في اللفظ والمعنى لا احتمال غيره إلا بأحد أمرين:
أحدهما: أن تكون العامية دخلت البادية في عهد الهجري، وذلك مرجوح، بل مستبعد.
وثانيهما: أن تكون هذه المفردة ذات معنى لم يدوَّن في المعجم على نحو ما شرحته في مقدمتي لكتاب محبوب الدوسري عن أشعار الدواسر.. وقوله: تيممن صفة للصدوع.. أي إذا قلت: يبري الكبد الصدود: تيممت الصدوع جهتها.. وقد وصف الصدوع بأنهن مقيمات، فلا معنى لاتجاههن إلى محل هن مقيمات فيه، ولهذا جعل التيمم لزيادتها، والغمض بفتح الغين هنا بمعنى الغور، لأن الغامض في لغة العرب المطمئن المنخفض، فإذا زاده الصدع غمضاً كان ذلك غوراً.. وصدوعتها ضرورة وزنيّة، لأن جمع الصدع صدوع، فالتاءُ حشو.. والنحض اللحم.. ومعنى آخر بيتٍ: أن ذوي الأضغان وهم حراسها حفوا ببيتها، لأبعد عنها وتبين عني، فجعلهم حافين بالبين، لأن ما حفوا به سبب البين.. ولا يريد الشاعر واحدية الصف، بل يريد معنى صافين بدليل حفوا، وبدليل يرى بعضهم بعضاً.. وختم القصيدة الثانية بالمبالغة، وأفادنا أن لمياءَ بنت لزيد، فقال:
فلو كلَّمتني بنت زيدٍ وقد دنا
لي الموت جلّا الموت عني كلامُها
ولو وقفت يوماً على جال حفرتي
لوسَّع ضيق القبر عني مقامها
ولو هبطت بطحاءَ مكة أشرقت
لريّتها وازداد أمناً حمامها
ولو نزلتها قدر موقف ساعةٍ
قليلاً لولاّها الصلاة إمامها
ولو أنها استسقت لحِرّان لاهثٍ
تهلل من جو السماءِ غمامها
ولو مسحت نِضواً رذيّاً بكفها
لأطلقه للمشترين مسامها
.. انظر كتاب (التعليقات والنوادر) 2 /518
قال أبو عبدالرحمن: ريتها رؤيتها، وبعض العرب يترك الهمز، والهمز أفصح.. والرذي من أثقله المرض، والضعيف من كل شيء، والنضو الثوب الخلق.. يعني أن المشترين يرغبونه، فيسومونه، فالسوم أطلقه من الزهادة.. وعلى هذا النسق من المبالغة قول الأعشى:
لو أسندت ميتاً إلى صدرها
عاش ولم ينقل إلى قابر
حتى يقول الناس مما رأوا
يا عجباً للميت الناشر
ومن المبالغات قول الرقاشي الصوفي:
ولما تلاقينا على سفح رامة
وجدتُ بنان العامرية أحمرا
فقلت خضبت الكف بعد فراقنا
فقالت معاذ الله ذلك ما جرا
ولكنني لما رأيتك راحلاً
بكيت دماً حتى بللت به الثرا
مسحت بأطراف البنان مدامعي
فصار خضاباً بالأكف كما ترا
وقال ابن حجة الحموي:
يا ناقل المصباح لا تمروا على
وجه الحبيب وقد تكحل بالكرا
أخشى خيال الهدب يجرح خده
فيقوم من سنة الكرا متذعرا
ومن المبالغة قول توبة بن الحمير:
ولو أن ليلى الأخيلية سلمت
علي ودوني تربة وصفائح
لسلمت تسليم البشاشة أوزقا
إليها صداً من جانب القبر صائح
ومثل ذلك من الشعر العامي قول مطوع أشيقر:
خليلي ولو يزرع زريع سقيته
بدموع عيني لو يشح السحاب بماه
خليلي ولو يبزق على الشري ريقه
غدا كالعسل كل يزيد شراه
خليلي ولو ياطا على قبر ميت
تكلم دفين القبر حين وطاه
خليلي ولو يمشي بقاع تزخرف
وزهره ينور عند وقت مشاه
وإلى لقاءٍ قريب إنْ شاءَ الله تعالى، والله المستعان.
** **
كتبه لكم: (محمد بن عمر بن عبدالرحمن العقيل) - عفا الله عَنِّي، وعنهم، وعن جميع إخواني المسلمين-