الهادي التليلي
حراك 25 يوليو يعد نقطة مرجعية في تاريخ تونس المعاصرة لا فقط لأنه كان مؤذناً بقطيعة إيبستيمية ما قبل الحداثة والدعم المتستر بالدين وإنما أيضاً هو فرصة لاستعادة التونسيين بلدهم من غاز لا يشبههم غاز صنعته مختبرات غربية وعانت منه تونس مثل عدد من الدول العربية ولحظة لنطق الأغلبية الصامتة في وجه الأقلية الصائتة التي تلبست بالبلد حتى استنزفت كل مقدراته و حطمت الصورة الذهنية الراقية التي كانت على تونس وحولتها إلى صورة قاتمة بعيدة كل البعد عن الشعب وهويته فالأغلبية الصامتة سابقا والناطقة حاليا لم تثر فقط على الإخوان وإنما على الطبقة السياسية الفاسدة التي رذلت المشهد وعمقت مأساة الشعب فلو أعدنا المجهر إلى ما قبل 25 يوليو بيوم واحد لوجدنا معارضة مستميتة لحركة النهضة ومشتقاتها من ائتلاف الكرامة وحزب قلب تونس المتحالف معها لهذا الحراك.
وأيضا وهذا مهم جدا كانت هناك معارضة شرسة من الحزب الدستوري الحر لعبير موسي وكل الأحزاب ذات الطابع المتناغم معها.
بمعنى أن حراك 25 يوليو كان كما قلنا ضد المشهد السياسي المتعفن بكل شركائه الموجب والسالب أي المجرم والضحية، كان ضد كل من تسبب في ما وصلت إليه البلاد من وضع سيئ وصورة ذهنية أسوأ وبعد أن استجاب قيس سعيد لمطالب الشعب وجمد البرلمان وفعل الفصل 80 من الدستور الذي سنته الحكومات السابقة على مقاسها والذي بمقتضاه يصبح للرئيس صلاحيات مطلقة تسمح له بتطهير البلاد من الأدران التي لوثت المشهد وانقاذ ما يمكن إنقاذه جراء ما عصفت به كورونا من نتائج تترجمها الأرقام المفزعة لأعداد الضحايا والوضع الصحي الكارثي
الشعب الذي ملأ الشوارع فرحاً بخروج الإخوان من المشهد هو نفسه الذي خرج قبل ساعات لحرق مقرات النهضة التي رأى الشعب أنها منتهية الصلاحية ولا بد من بديل.
قيس سعيد الذي لم يصنع الحراك ولكنه بذكاء وفطنة اقتنص الرسالة القوية من الشعب واستجاب للمطالب.
وفي الحقيقة الشعب التونسي يثق في قيس سعيد حتى قبل أن يكون رئيساً لذلك نصره على ممثل حركة النهضة عبد الفتاح مورو في الانتخابات الرئاسية 2019 والشعب لا يثق في حركة النهضة وكل الأحزاب التي تأتمر بأوامر خارجية لأنه يعلم أن قرارها ليس بيدها والأجندات التي تنفذها خارجة عن مصالح الشعب والبلد والدولة.
قيس سعيد الذي آثر علوية القانون وحتى عندما حاولت بعض الأحزاب الركوب على الحراك واختراق القانون والدولة أوقفهم عند حدهم وهو ما حصل مع عبير موسي التي أرادت القيام رغماً عن الدولة بمسيرة ضخمة بالسيارات الفارهة في شوارع العاصمة عبير موسي التي تفرق عنها العديد العديد من أنصارها بعد موقفها السلبي من الحراك ضد النهضة، والذي رأى فيه الجميع محاولة منها لإنقاذ النهضة حتى تستثمرها أكثر إعلامياً بالظهور في صورة الضحية والحال أن الشعب كان ضحيتهما.
النهضة التي في كل محطة ومنعطف سياسي تختار سياسة الحرباء اختارت بعد موت شكري بلعيد الخروج من الحكم والبقاء في السلطة مكتفية برئاسة الحكومة متنازلة على منصب الرئاسة ولكن بوضع كل الصلاحيات في جبة الحكومة وعندما وقع زلزال خروج الإخوان في مصر اختارت اجتناب الظهور وساعدت السبسي في الوصول إلى الحكم على حساب حليفها المرزوقي و بقيت الرقم الثاني في معادلة المشهد ولكن بعد فترة قصيرة فتتت وقسمت الرقم الأول حزب الباجي قايد السبسي نداء تونس إربا إربا لتصبح النهضة الرقم الأول في المعادلة ولكن دون الحاجة إلى الظهور.
نفس هذا الخطاب الحربائي تلبس بتقنية نعومة الأفاعي تجدد بعد حراك 25 يوليو فبعد أن كان الغنوشي ينادي بالعصيان العام مستعملا شفرة النفير أمام مجلس الشعب يوم 26 يوليو ولم يستجب لندائه أحد تعمد سياسة الغياب مكلفا الشق المعتدل بالتهليل بإجراءات الرئيس وذلك ليكسبهم مشروعية فتح قنوات الحوار مع الرئيس ولكن لم ينطل شيء من الحيلة على الرئيس والشعب فباشر تقنية الحرباء حيث صرح بأنه يمكن اعتبار ما حصل في يوم 25 يوليو مناسبة تصحيحية للمسار بعد أن كان إنقلابا حسب زعمه وبعد أن كان يهدد في إيطاليا وسائر دول أوروبا بآلاف المهاجرين اللاشرعيين.
والغاية من ذلك إعادة إنتاج الذات في نسق وصورة مغايرين للعودة في شكل آخر و بثوب مغاير ولكن الجوهر يبقى كما هو ولتحقيق ذلك تمت الاستعانة بضغوط خارجية كشفت سرها مجلة حون أفريك حيث أكدت الاتصالات مع كل من أمريكا وفرنسا والحصول على وعود بعودة مجلس النواب بعد مدة التجميد والتي هي شهر قابل للتمديد.
في الواقع تونس الجديدة المتحررة من بعبع هو في حقيقته كذبة كبرى صنعها الغرب وصدقها الكثيرون من أبناء الشعب التونسي وانكشف بعد 25 يوليو أنها مثل التفاحة التي تمكن منها الدود من الداخل فتظهر مكتملة جميلة متبرجة ولكن سقوطها يكون في ثوان وهو ما تفطن إليه قيس سعيد الذي عرف أي الأبواب يطرق وكان المنطلق بالمملكة العربية السعودية الباب الكبير والسماء المتسعة لكل أحبابها وكانت السعودية فعلا الحضن الراعي الحقيقي دون أطماع استعمارية أو هيمنة ليبرالية مقنعة.
فالسعودية وقفت درعا منيعا لحماية الشعب التونسي من آفة كورونا وسندا أعطى لقيس سعيد ثقة في النفس خاصة أمام الضغوطات الدولية التي استماتت دفاعا عن الإخوان سفراء مصالحها في تونس. السعودية لم تكتف بهذا بل طالبت المجتمع الدولي بالوقوف ودعم تونس وزادت على ذلك بأن وضعت على ذمة تونس ما تحتاجه في هذا الظرف العصيب وساهمت في سداد ديونها للبنك الدولي ولا ننسى المساعدات الضخمة والتي من بينها مليون جرعة لقاح، وكان ذلك بحرص ومتابعة حينية من خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز وولي عهده الأمين محمد بن سلمان.
الرسالة القوية من السعودية وباقي أصدقاء تونس الذين منهم من حركته الغيرة ومنهم من تتبع خطو المملكة هذا الكيان الذي يدعو له أهل تونس بدوام النعمة ولقيادته بمزيد من التوفيق.
تونس التي دخلت طور التعافي وتحتاج إلى خطة طريق وإلى الوعي بأن المواقف الصعبة التي مرت بها درس لابد من تعلم عبره فالآخر الإخواني الذي كان خرابا على تونس كان المبادر بمحاربة إرادة هذا الشعب والأخ الشقيق كان وفيا لقيمه وهو الذي تفنن أعداؤه في استغلال بعض الغرابين الإعلامية الوسخة من فئة الهاشمي الحامدي صحفي الدفع المسبق ومن لف لفه من الذين تفنن الشعب بعد 25 يوليو في فضحهم.
السعودية وتونس لم تستطع الجغرافيا ولا الآخر القذر من التفريق بينهما يستعيدان تونس الجديدة لبناء أفق من البناء والتشييد فتونس التي كانت مطمورة روما وأرض الخير والسعادة حسب الفيلسوف القديم لوكراس وهي التي كانت قرطاج حنبعل ومهد الحضارة القبصية العريقة ستعود بوقفة أشقائها وبجهود ابنائها وبقيادة من طينة قيس سعيد.
والبوادر واعدة حيث استجاب الشعب لنداء سعيد بالتلقيح المكثف فهب ما يزيد عن نصف مليون من الذين تجاوزوا سن الأربعين ما يعادل 4.3 بالمائة من عدد السكان الجملي وذلك في يوم واحد ما يعطي إشارات عن التعافي والوعي.
لذلك وغرار مؤتمر باريس لدعم السودان والذي أعطى فرصة لعودة هذا البلد للمشهد بعد تحلل جزء من ديونه وبناء شراكة دولية جديدة، لم لا؟ مؤتمر الرياض الدولي لدعم تونس، إذ ليس هناك الآن بلد أقرب إلى تونس وشعبها من المملكة العربية السعودية لتعود تونس إلى حضن المشهد العالمي من خلال رعاية الكيان المهيب والقوة الجيو سياسية المؤثرة السعودية قلب العالم النابض.