هذا يوم عظيم في الإسلام والجاهلية عند اليهود والنصارى والمسلمين كما وردت في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، فعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قال: حِينَ صَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ يَوْمٌ تُعَظِّمُهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (فَإِذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ صُمْنَا الْيَوْمَ التَّاسِعَ) فَلَمْ يَأْتِ الْعَامُ الْمُقْبِلُ حَتَّى تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. رواه الإمام مسلم.
دعوة لعموم القراء في (العيش الكريم والفقه السليم) داخل وخارج أسوار هذه القصة القرآنية.
سأقف مع دروس الحادثة التي تناولها القرآن الكريم بصورة متكررة وأنزلها منازل متعددة من إيجاز وإطناب وسياقات تتناسب مع السورة القرآنية والعهد المكي والمدني.
الصيام أجل درس يتجلى في قصة موسى وقومه أمام فرعون وجنده، ويكفينا شرف متابعة التوجيه النبوي الكريم الذي تجب له الطاعة المطلقة دون سواه.
هنا أجدها فرصة طيبة للحديث عن مراتب الصوم الذي تطمئن إليه النفس وفق أقوال علمائنا الكرام الأجلاء..
1- صيام التاسع والعاشر. (يومٌ قبله؛ فيه المخالفة التي أراد رسول الهدى، وصيام يوم قبله وليس بعده؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- عزم وخصص اليوم التاسع دون غيره، ولأن صيام التاسع مقدم على الحادي عشر) كما جاء في الحديث: - إن شاء الله - في العام المقبل).
2- صيام العاشر والحادي عشر. (يومٌ بعده؛ فيه المخالفة التي أراد لها رسول الله أن تتحقق في النفوس المؤمنة من عدم مشابهتهم لليهود والنصارى وتمايزهم عنهم وتحققت هنا بصيام يوم بعده).
3- صيام العاشر (يثبت الأجر -إن شاء الله- ولكن فات عليه معنى المخالفة التي قصدتها شريعتنا الغراء).
هنا لفتة جميلة لغوية ولمسة فنية مثيرة من مقالة أ.د. عبدالرزاق بن فراج الصاعدي.. أحب ألفت النظر إليها بتصرف يسير..
(قبل أن نلج إلى التفصيل في كلمة «حادوشاء» أودّ أن أُطمئن القرّاء وأقول لهم: إن كلمة «حادوشاء» كلمة إنسيّة وليست من كلام الجنّ، ولا من طلاسم السحرة، لكنها كلمة حديثة الولادة، ولغتنا مُذ كانت ولاّدة، وأنا لا أجد حرجاً في قبول «الحادوشاء» بل استحسنها؛ لتُستكمل المماثلة بين أيام الصوم الثلاثة (التاسوعاء والعاشوراء والحادوشاء) لأن هذه الكلمات الثلاث متلازمة تجري على ألسنة الناس في وقت معلوم، وفي المماثلة تيسيرٌ وتخفيف، وفي هذه الكلمة الوليدة تمييز لذلك اليوم من غيره من الأيام، كما ميّزوا التاسع والعاشر). أ.د. عبدالرزاق بن فراج الصاعدي.. ملحق الرسالة - جريدة المدينة - الجمعة 1 صفر 1434هـ - الموافق 14 ديسمبر 2012م.
عودة للمقالة..
إن درس: (الثبات على الحق) هو الأهم في تقديري.. وهذا حقيقة الانتصار!
ثم نبحث في مسألة دلالة (النصر أو الهزيمة) حسب السياق القرآني الذي يريد بثه في نفوس المتلقين من عباده المتقين.
هذا ليس تقليلاً من شأن دلالة النصر والهزيمة بل هو حاجة فطرية بشرية تسري على الجميع لا مناص منها ولا بأس في النظر إليها،وتحقيق متطلبات النفس بالصورة المشروعة لا حرج فيها على صاحبه، غير أن الشأن القرآني في خطابه المتين يبحث في الأعماق ويحفر في داخل الصدور.
خذ مثلاً:
(دلالة النصر والهزيمة في غزوة أحد)..
المؤرخ المتابع للغزوة يقول: هذه هزيمة للجماعة المؤمنة؛ لأن معيار النصر والهزيمة عند المؤرخ مالحق الجيشين من الخسائر. فمن كانت خسارته أكبر فهو المهزوم.
العسكري المتابع للغزوة يقول: هذا انتصار عريق للمؤمنين الصادقين؛ لأن معيار النصر والهزيمة عند العسكري حجم الأهداف التي تحققت لكلا المتحاربَيْن؛ فالذي حقق أهدافه فهو المنتصر. وإنْ لحقته خسارة في الأرواح، واندملت منه الجراح!
المؤرخون يعتبرون غزوة أحد انتصاراً للمشركين غير أن الحقائق العسكرية لا تمضي مع كلام المؤرخين مع تقديرنا البالغ لهم؛ لأن المشركين فشلوا في القضاء على الجنود المؤمنين بعد الإحاطة بهم وتوفر فرصة كبرى للفتك بقوات عدوهم وهذا يعد هزيمة لهم، وإن نجاح المؤمنين في الخروج من تطويق المشركين عليهم والافتكاك من قبضتهم يعد نصراً لهم.
** الدرس 1:
الهزيمة الثقيلة التي تحكم المشهد بين النبي الكريم موسى عليه السلام وقومه المستضعفين والطاغية فرعون وجنوده هي هزيمة العقيدة الصحيحة وليس أي شيء آخر!
قدَّر الله - بعلمه البصير وحكمته النافذة - أن يكون العراك بين الحق والباطل مستمراً، والحراك الثائر بين الإسلام والكفر.. علينا ندرك طبيعة هذا الصراع الأزلي الذي جاء بإرادة الله -جل وعز- ولا يمكن البتة إلغاء هذا الأمر مهما كانت المسميات مرة (الأسرة الواحدة) ومرة أخرى (الشرعية الدولية) وغير ذلك من الأسماء، كما يروج من أقلام أهل الأهواء والنفاق وبعض المنهزمين داخل الصف الإسلامي وتسويق ذلك على الجماهير.
ونحتاج مرة بعد مرة التذكير بالقاعدة الأصيلة: (تغيير الأسماء لا يغير الأحكام؛ لأن العبرة بالحقائق والمعاني لا بالألفاظ والمباني). نحن هنا لا نتكلم عن العلاقات الدولية التي تضبطها السياسة الشرعية في الشأن الدنيوي وإنما التقارب الممنوع الذي يمس العقائد الذي جاء فيه نص صريح في الكتاب الكريم: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ....}، {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}.
هذا المسار الإسلامي الصحيح لا غلو ولا جفاء.
** الدرس 2:
منهج المصلحين وليس الصالحين!.
هو طريق الأنبياء والمرسلين على قمة مجده سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم-.
لماذا؟!
لأنّ (الصالح) أثره يسير ومحدود، وخصومه ألطف، و(المصلح) أثره واسع، وخصومه أعنف!
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين لم يبلغ بالرسالة (رجل صالح )كان خصومه من قريش يضفون عليه لقب (الصادق الأمين)، ولما جاء البلاغ وأذن بالتبيلغ والتحرك لإصلاح الشأن العام، فاض سيل الشتائم والقذائع والتهم (ساحر، كاهن، مجنون، قلاه ربه، طالب شهرة،..!) -سبحان الله وبحمده- صدق الله العظيم.!
كلمات مواساة للمصلحين وتثبيث لأرواحهم. وهذه وصية ذهبية للنبي الكريم موسى عليه السلام {وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ}. المفسدون كما هو حال فرعون لا يعنيهم كثيراً الرجل الصالح، بل يعيشون في انتباه دائم إذا كان الرجل مصلحاً.
** الدرس 3:
الرفق والشدة بينهما تلازم؛ فكثير من الراصدين للشأن والبحث القرآني يغفل عنها لأسباب متعددة. تراه يقدم الرفق ويهمل الشدة، والعكس صحيح، ولكن الأمر ليس كذلك ولم يرد المنهج القرآني وفق هذا التصور.
نعم.. الأصل الرفق واللين مع الخلق جميعهم دون استثناء.
ثم بعد ذلك سوف نحتاج إلى التفريق بين الناس في ضوء ردات الفعل الصادرة منهم ووضعهم في مستويات متعددة.
فمن الناس من ينفع معه اللين والرفق أكثر من الشدة ومن الناس من ينفع الشدة أكثر من اللين والرفق.
نتحدث هنا عن الأصل ثم الاستثناء، ولكن هناك من يتكلم عن الأصل ويلغي تماماً الاستثناء أو يحاول تمرير هذا، وهذا واضح في الكتابات التي تتكلم عن أساليب الدعوة ومنهج الدعاة كما تبصره عند بعض المتحدثين على نحو متزايد واضح.
وفي حالات لا يفعل هذا ولكنه يغرق في الحديث عن الآية الكريمة الداعية إلى الرفق، وإذا جاءت الآية الأخرى لم تنل القدر الكافي ومرّ أمامها مروراً سريعاً.
إن ربنا الكريم الذي دعانا للرفق وهو (الأصل)، هو الذي دعانا للشدة وهذا الاستثناء.
الذين ينادون مسك العصا من منتصفها على حق كثيراً وليس دائماً؛ فمسكها من المنتصف في مرات يجعلها عديمة الفائدة، لا تؤدي غرضها، بل قد توقعه بالضرر!
كيف أثر ذلك لمن يريد يتوكأ على عصاه، أو يهش بها على شجرة لتتساقط أوراقها على غنمه؟! هل مسكها من الوسط؟!
وقد يرى بعضهم في الأمر تعارض كما في الآيتين الكريمتين التاليتين:
{فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى}
{وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا}.
والأمر هو متعلق بالسياقات والمراحل لكل آية، فالأُولى كان الأَولى فيها اللين والرفق فهذا أول لقاء وبداية الطريق وهذا ما فعله النبي الكريم موسى عليه السلام.
والآية الثانية بعد استنفاد الأساليب الحسنة، وظهور العناد والاستمرار فيه كان لا بد من تنويع طريقة الخطاب وتغيير لهجة الحوار ورفع سقفها التي تناسب المرحلة.
وهنا أنقل للقراء الأعزاء جواب فضيلة الشيخ العلامة الفقيه محمد بن صالح العثيمين -غفر الله له-.. ضمن سلسلة لقاءات الباب المفتوح شوال 1412هـ
(بالنسبة لقول الله سبحانه وتعالى: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} نجد في سورة الإسراء أن موسى حصل بينه وبين فرعون كلام فيه شدة وغلظة ومنه قول موسى:
{وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورا} كيف الجمع بين هذه الآية والقول باللين؟
الشيخ: الجمع بينهما أنه خاطبه باللين أولاً، أول ما خاطبه باللين، فلما طغى وشمخ وارتفع كان حقه أن يهان، وهذا من التدرج في الدعوة إلى الله بالحكمة، تتكلم مع المدعو أولاً باللين والسهولة، فإذا أصر وعاند ليس جزاؤه إلا أن يغلظ عليه.) أ.هـ
إذاً اللين والشدّة كل له مناسبته قال الله لموسى وهارون: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً} ولكن لما ظهر عناد فرعون وتكبره شدد عليه {وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورا}.
هذا يذكرنا ولكن المقام لا يتسع لعدد من الآيات القرآنية التي تعامل بعضنا معها بغير عدل وفي أبحاثه ومقالاته بأسلوب غير علمي وأحياناً غير أخلاقي!
عاشوراء .. حدث يتكرر في كل عام، وإذا حاولنا مع أبنائنا وبناتنا والأوساط التي نلتقي فيها نسلط الضوء على أهمية هذه الشعائر وتحريك المشاعر لها كما جاءت في القرآن الكريم وأرشدت لها السنية النبوية الشريفة.
عاشوراء.. الذين فِقهوا الدرس نقول لهم: عاشورا.!!