عاش الشعب التونسي، خلال العشرية الأخيرة، سنوات صعبة تميّزت مع الأسف بالحسابات السياسوية الضيقة، وما رافق ذلك من تجاذبات حالت دون السير الطبيعي لدواليب الدولة، وللمؤسسات الدستورية ولاسيما البرلمان. وإن كان لا بدّ من التمييز بين المؤسسة البرلمانية المنبثقة من الشعب، وبين إرادة الشعب، الذي طالب في العديد من المناسبات بحلّ البرلمان، وآخرها كان خلال الهبّة الشعبية ليوم 25 جويلية / يوليو 2021.
هذا البرلمان الذي انشغل عن المصالح والمطالب الحقيقية للشعب التونسي، وخيّر الدخول في المناكفات السياسية التي ساهمت في ترذيل المشهد السياسي التونسي والانحراف بالمسار الديمقراطي بالبلاد، وفي مزيد تعميق الأزمة الاجتماعية والاقتصادية التي كادت أن تؤدي إلى منزلقات خطيرة، علاوة على استشراء الفساد، الذي ضرب عديد القطاعات والمجالات. ناهيك وأن تقرير محكمة المحاسبات قد أثبت على سبيل الذكر لا الحصر، أن العديد من الأحزاب السياسية في تونس، قد تلقت تمويلات أجنبية خارجية في الانتخابات الفارطة، فضلا عن سوء إدارة أزمة «كوفيد 19» والتي أسفرت عن وفيات ناهزت 21 ألفاً وتسجيل أكثر من 9000 إصابة يومية في بعض الفترات.
انطلاقاً من الوضع المتردي للبلاد، ومدى خطورته على السلم الاجتماعي، واعتبارا أن رئيس الجمهورية في الدستور التونسي هو رمز الدولة التونسية، والضامن لاستقلالها واستمرارها ولاحترام الدستور، فقد كان من هذا المنطلق، تدخل سيادة رئيس الجمهورية قيس سعيّد، يوم 25 جويلية / يوليو، في غاية من الأهمية. بل واجب مقدس فرضه عليه واجبه في الحفاظ على أمن البلاد ووحدتها واستقلالها، وذلك في كنف الاحترام الكامل لدستور سنة 2014، ولاسيما الفصل 80 منه، الذي ينص أنّه «لرئيس الجمهورية - في حالة خطر داهم مهدد لكيان الوطن وأمن البلاد واستقلالها، يتعذر معه السير العادي لدواليب الدولة - أن يتخذ التدابير التي تحتمها تلك الحالة الاستثنائية...».
واستناداً على ذلك اتخذ سيادة رئيس الجمهورية التدابير التالية التي ارتآها مناسبة: تجميد أعمال مجلس نواب الشعب لمدة 30 يوماً، إنهاء مهام رئيس الحكومة، رفع الحصانة عن النواب وترؤس السلطة التنفيذية.
فالغاية إذاً من هذه التدابير هي فرض القانون على الجميع وضمان استقلال القضاء ونجاعته، خاصة في هذه المرحلة من تصحيح المسار السياسي، حتى تظل التجربة الديمقراطية التونسية عنوان نجاح حقيقي في إرساء دولة القانون والمؤسسات وحقوق الإنسان والحريّات.
ونؤكد في هذا الصدد، أن المسار الديمقراطي في تونس متواصل ولا مجال للمساس بالحقوق والحريّات، وفي طليعتها حرّية التعبير والصحافة المكفولة دستوريا. كما أنّه لا مجال للاعتقالات الانتقامية، ولا للتنكيل برجال الأعمال أو مصادرة أموالهم، بل تعوّل الدولة على حسّهم الوطني في هذا الظرف الدقيق من تاريخ تونس.
فرئيس الجمهورية، هو رجل قانون دستوري، وهو يحتكم إلى الدستور في جميع قراراته. والتدابير المتخذة من قبله، ما هي إلاّ تدابير مؤقتة تندرج في إطار التنظيم المؤقت للسلط وفقا للدستور إلى حين زوال الخطر الذي يداهم الدولة التونسية ومؤسساتها (تهديد السلم الاجتماعي، خطر تفكك الدولة، خطر الإرهاب...) وحفاظاً على استقرار البلاد وضمان ديمومتها وحماية المسار الديمقراطي برمته.
وقد تقبل الشعب التونسي قرارات سيادة رئيس الجمهورية بفرح كبير حيث خرجت أعداد كبيرة من المواطنين التونسيين إلى الشوارع للتعبير عن فرحتهم النابعة من الأمل الذي أصبح يحدوهم في غد أفضل، لاسيما من خلال جلب كميات مهمة من التلاقيح وذلك في إطار المساعدات الطبية التي تلقتها تونس من عدة دول شقيقة وصديقة وتنظيم حملات وطنية للتلقيح بإذن من سيادة رئيس الجمهورية والتي شهدت اقبالا كبيرا من قبل المواطنين ونجاحا باهرا مما أدى إلى تلقيح أكثر من مليون شخص خلال الأيام المفتوحة التي وقع تنظيمها يومي 8 و15 جويلية/ يوليو 2021.
وبناء على ما تقدّم، ندعو أشقاءنا وأصدقاءنا كي لا ينساقوا وراء الادعاءات والأكاذيب التي تروج لصورة غير حقيقية للوضع في تونس. بل إن سيادة رئيس الجمهورية يعمل الآن على وضع خارطة طريق، وتكوين حكومة تستجيب لتطلعات الشعب التونسي اقتصاديا واجتماعيا، وتمكّن من تصحيح المسار السياسي والمحافظة على الحريات العامة والخاصة.
وعلى قدر الثقة المطلقة في قدرة التونسيين على الخروج ببلدهم إلى برّ الأمان، استنادا إلى العزم الراسخ لسيادة رئيس الجمهورية في تثبيت دولة الحق والقانون، فإننا إلى جانب ذلك نثمّن دعم الأشقاء والأصدقاء وفي مقدمتهم المملكة العربية السعودية في هذه المرحلة الفارقة والدقيقة من تاريخ تونس. وفي هذا الإطار تتنزل الزيارة التي أداها إلى تونس، يوم 30 يوليو 2021، صاحب السمو الأمير فيصل بن فرحان، وزير الخارجية، التقى خلالها سيادة رئيس الجمهورية قيس سعيّد، والذي أكدّ لسيادته «وقوف المملكة العربية السعودية الشقيقة إلى جانب كل ما يدعم أمن واستقرار الجمهورية التونسية، والتأكيد على الثقة في قيادتها لتجاوز هذه الظروف التي تشهدها تونس، وبما يحقق العيش الكريم للشعب التونسي وازدهاره، ودعوة المملكة المجتمع الدولي إلى الوقوف بجانب تونس لمواجهة تحدياتها الصحية والاقتصادية». هذا الموقف أيّده وثبته اجتماع مجلس الوزراء الذي عُقد يوم 3 أغسطس الجاري برئاسة حضرة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، حفظه الله، الذي ما انفك بفضل توجيهاته السامية، يقدّم الدعم لتونس في جميع المجالات.
إن الدعوة التي وجهتها المملكة العربية السعودية الشقيقة إلى المجتمع الدولي للوقوف بجانب تونس من أجل تجاوز الصعوبات الاقتصادية والاجتماعية والصحّية سيكون لها، بإذن الله، الأثر الإيجابي على بلادنا، وذلك انطلاقا من الوزن السياسي والاقتصادي الكبيرين للمملكة على المستويين الإقليمي والدولي.
كما نستذكر المكالمة الهاتفية التي جمعت يوم 9 يوليو 2021 سيادة رئيس الجمهورية التونسية، قيس سعيّد، بأخيه صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز، ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع، والتي تنبع من إيمان سيادته العميق بضرورة تظافر الجهود الدولية من أجل مكافحة الجائحة الصحية «كوفيد 19» ووعي سيادته بالتزام المملكة الشقيقة وقيادتها الحكيمة بمساندة الجهود الدولية في مكافحة هذا الفيروس، وكذلك استعدادها الدائم لمدّ يد العون والمساعدة للدول الشقيقة والصديقة.
وهي وقفة لا يمكن لتونس أن تنساها أبدا، ذلك أن حضرة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، حفظه الله، لم يتوان لحظة في الاستجابة السريعة لدعم تونس وإسداء توجيهاته الكريمة من أجل تمكين بلادنا بصفة عاجلة من المساعدات والمستلزمات الطبية اللازمة، إلى جانب برمجة مليون جرعة لقاح دعما لجهود تونس في مجابهة هذا الفيروس.
إن هذا المدّ التضامني، قد لاقى في تونس ترحابا رسميا وشعبيا كبيرين، كما أثار في نفس التونسيين مشاعر الامتنان لحضرة خادم الحرمين الشريفين وولي عهده الأمين، وهو أمر ليس بالغريب أو بالجديد على القيادة السعودية، التي تظهر في كل مرة تضامنها مع أشقائها عند الشدائد والأزمات.
أدام الله عز المملكة العربية السعودية الشقيقة في ظل قيادتها الحكيمة وسدّد خطاها على طريق الخير.
** **
هشام الفوراتي - سفير الجمهورية التونسية بالرياض