اللواء الركن م. سلامة بن هذال بن سعيدان
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: تكلموا تعرفوا فإن المرء مخبوء تحت لسانه، وهذا القول يدل دلالة واضحة على أن الكلام يستدل منه على شخصية المتكلم وعلى منطقه وعقله وعلمه، وكلما ارتفع مقام هذا المتكلم وعلا شأنه كلما زاد الاهتمام بمدلول القول وتعاظم المفعول في تناسب طردي على نحو تبرز معه حاجة المتكلم إلى الكلمة المؤثرة التي تدنيه من النجاح في مهمته وتنأى به عن الفشل وقد قال الشاعر:
تكلم وسدّد ما استطعت فإنما
كلامك حي والسكوت جماد
والإنسان إذا ما وثق في نفسه وثق فيه الآخرون، ومن غير المقبول والمعقول أن ننتظر منه عكس ذلك، إذ إنه من الصعوبة بمكان أن يقوم أحد بمخاطبة الآخرين دون أن يكشف لهم إلى حد ما عن شخصيته، وما يتمتع به من صفات تؤهله لتأدية ما هو مطلوب منه، والحكيم من يعمل جاهداً لإعطاء الصورة الجيدة عن نفسه، بعيداً عن النرجسية والتكلف.
وتأسيساً على ذلك فإن شاغل المنصب يبرهن عن شخصيته بالحديث الذي يحاول عن طريقه التأثير في من يستمع إليه، وعندما يتخذ هذا الحديث شكلاً خطابياً فإنه يكون أكثر تمحيصاً للشخصية والجاذبية الفردية التي تقود إلى ما تقود إليه من انطباعات جماعية وصورة وطنية لا يرقى إلى مستواها إلا أصحاب المناصب من القادة والزعماء. وقد قال الشاعر:
يا رب سحرٍ من كلام الناس
يُليِّن القلب الغليظ القاسي
والمناصب تنساق للمتكلم الذي يترك كلامه بصمة لدى الذين يستمعون إليه إلى الحد الذي يجعل له قبولاً في الوسط الذي يتعامل معه، بحيث يصل هذا القبول إلى محاولات تقليده والاقتداء به، بفضل ما له من تأثير وإقناع يلهمان الثقة ويثيران الحماسة في نفوس الأتباع الذين يجدون في الحديث من الصدق والصراحة والكفاءة ما يؤهل المتحدث ليكون جديراً بالاقتداء وخليقاً بالاحتذاء.
وشاغل المنصب عندما يتكلم يكون على المحك وكلامه تحت المجهر بالنسبة للأتباع الذي يتخذون منه مثلاً يحتذى، ويرون فيه قدوة في القول والعمل، انطلاقاً من أن المثل خير معلم، والتعليم بالقول يشكل مرشداً إلى التعليم بالعمل الذي تزيد الكلمة المؤثرة في مفعوله، وتدفع به إلى الأمام لتحقيق الهدف المراد تحقيقه، وكما قال الشاعر:
وإذا الكلام مهذباً لم يقترن
بالفعل كان بضاعة الثرثار
والأفكار التي يطرحها شاغل المنصب والكلمات التي يتكلم بها تشكل في جوهرها أحداثاً تؤثر في حياة الآخرين، مما يتطلب منه أنه يوحي لمن يستمع إليه بأنه مسؤول عن أفكاره وأقواله التي تنطوي على ما تنطوي عليه من أبعاد وأدوار معنوية وحسية ذات سمة اجتماعية ومقاصد مباشرة وغير مباشرة، تدل على عقله وتحمله للمسؤولية تجاه ما يقول واحترام الكلمة، وقد قال الشاعر:
زن الكلام إذا نطقت فإنما
يبدي عقول ذوي العقول المنطق
والتوسع في مناقشة الأفكار وتحليلها بالنسبة لشاغل المنصب تمثل الطريقة المثلى لجعل هذه الأفكار والمعارف ملكاً للمتلقي الذي بدوره يشارك في ترجمتها وتجسيدها على أرض الواقع بالشكل الذي تتبلور معه أهم حيلة من حيل المحادثة والخطابة التي يتمكن بموجبها المتحدث من جعل أفكاره تحتل مكانها في نفس المتلقي لها، بدلاً عنه إلى الدرجة التي يشعر معها هذا المتلقي بما يُقال أكثر من شعوره بمن يقوله، معتقداً أن الأفكار هي أفكاره وليست أفكار المتحدث.
والكلام يمثل نافذة يطل من خلالها المتلقي على ما في نفس المتكلم، ونجاح هذا المتكلم يعتمد على قدرته على فتح هذه النافذة بشكل أوسع مع الوعي التام لما يقول والتمسك بالأدب والكياسة واحترام الآخرين من أجل التأثير فيهم والسيطرة على الموقف وقد قيل: كلام المرء برهان أصله، وترجمان عقله وبيان فضله.
وبما أن القول يرشد إلى العمل، والمعادلة القولية والفعلية من خلاله تكتمل، فإن القدوة الصامتة يصعب الاقتداء بها، ويتلاشى مع الزمن تأثيرها، الأمر الذي يستدعي من شاغل المنصب أن يتكلم ويُسمع الآخرين صوته، فالناس يتبعون صاحب المنصب الذي يتكلم بطلاقة وإقناع، ولا يتبعون الخجول المتردد في القول والعمل مع مراعاة عدم زيادة القول على الفعل وعدم تجاوز المنطق حدود العقل، وقد قيل: إذا أحسنت القول فأحسن الفعل، لتجمع مع مزية اللسان ثمرة الإحسان، وقد قال عبدالله بن مسعود: من نصح عن شيء ووقع فيه أو خالف فعله قوله فإنما يوبخ نفسه.
وعندما يرتفع المقام بشاغل المنصب فإن الانطباع المأخوذ عنه ينعكس على الدولة والوطن مما يحتم عليه أن يحسب لكل أمر حسابه ويضعه في نصابه مع بذل الجهد للظهور بالمظهر اللائق أثناء التحدث عبر منبر رسمي أو عندما يغرد عبر مواقع التواصل الاجتماعي، لكي يعطي الصورة الوطنية المشرفة من خلال احترام الكلمة ووزنها بميزان العقل، والابتعاد عن هفوات اللسان والكلام المبتذل وإطلاق القول على عواهنه.
والعاقل عندما يتكلم في أي موضوع يتعين عليه أن يعرف سبب الكلام وهدفه، وأن يكون حاضر الذهن واعياً لما يقول، وفي التعريض وحسن توظيف الكلمة مندوحة عن الكذب وآفات اللسان مع تجنب الكلام المستهجن والمبتذل والعفوية الساذجة وغيرها من العبارات الدونية التي تجعل المتكلم عرضة لمن هب ودب من أعداء المروءة وجواسيس العيوب الذين إذا رأوا خيراً ستروه وإن رأوا شراً أظهروه والوقاية خير من العلاج وقد قال الشاعر:
توقّ الأذى من كل نذلٍ وساقطٍ
فكم قد تأذي بالأراذل سيد