د.سالم الكتبي
لا أعتقد أن هناك حماقة سياسية تفوق تلك التي يمتلكها الشخص الذي اتخذ قرار الهجوم على ناقلة النفط الإسرائيلية التي كانت تبحر في المياه الدولية قبالة سواحل سلطنة عمان، مؤخراً، فكل معطيات القرار لا توفر سبباً منطقياً واحداً للموافقة عليه، حتى أن العمليات السرية التي ينفذها الملالي ضد إسرائيل، وكذلك سياسة «حافة الهاوية» ولعبة «عض الأصبع» التي يمارسونها مع الولايات المتحدة والغرب عموماً، تحتاج إلى توقيتات مناسبة لتنفيذ خطواتها، في حين يلحظ الجميع أن قرار الهجوم على السفينة الإسرائيلية قد جاء في توقيت قاتل بالنسبة لنظام الملالي، ولا يعبر سوى عن جهل بالبيئة الإقليمية والدولية، ورغبة طائشة في تدشين مرحلة عنوانها التصعيد والصراعات الخشنة المباشرة بين إيران من ناحية والولايات المتحدة وحلفائها من ناحية ثانية.
قناعتي أن فهم أبعاد هذه العملية التي أكد وزير الخارجية الأمريكي انتوني بلينكن أن «الولايات المتحدة واثقة من أن إيران هي التي نفذت الهجوم على السفينة الإسرائيلية قبالة سواحل سلطنة عمان»، متعهداً بـ»الرد المناسب»، ولا شك أن تعبير الوزير الأمريكي عن هذا المستوى من الثقة «بعد مراجعة المعلومات المتاحة» بحسب قوله، هذا الفهم يضع الولايات المتحدة وشركائها وإسرائيل، بطبيعة الحال، باعتبارها الطرف المعتدى عليه في هذه الحالة، يضعهم جميعاً في مواجهة مسؤولية الرد على هذا السلوك العدواني الذي يهدِّد الملاحة في الممرات البحرية الدولية، ويضع المزيد من التحديات والأزمات أمام حركة النقل والتجارة الدولية التي تعاني بشدة منذ بداية تفشي جائحة «كورونا».
الوزير الأمريكي أشار إلى أن بلاده تتشاور مع دول داخل المنطقة وخارجها بشأن ما وصفه بـ»الرد المناسب»، مشيراً إلى أنه سيكون «وشيكاً»، وأنه سيكون «جماعياً»، وهذا يعني أنه لن يكون رداً أمريكياً أو إسرائيلياً منفرداً، وأن هناك تحالفاً جماعياً سيقوم بالرد على الانتهاك الإيراني لقوانين الملاحة الدولية، والأرجح ألا يأتي الرد سياسياً، بل سيكون من نفس النوع، أي رد عسكري، لأن توقيع المزيد من العقوبات على ملالي إيران لن يحقق هدف الردع في هذه الحالة، علاوة على أن إدارة الرئيس بايدن تسعى لترسيخ فكرة القدرة على الردع الحاسم والسريع في مواجهة الاعتداءات التي تستهدف مصالح الولايات المتحدة وحلفاءها المقربين، ولاسيما إسرائيل، علاوة على أنها لا تريد الظهور في أول اختبار لها بمظهر المتخاذل عن دعم الحليف الإسرائيلي والدفاع عنه في مواجهة التهديد الإيراني، فضلاً عن أن الحكومة الإسرائيلية برئاسة نفتالي بينيت لا تريد أيضاً منح الفرصة لرئيس الوزراء السابق بنيامين نتنياهو لاتهامها بالضعف والتراخي وعدم القدرة على التصدي للتهديدات الإيرانية.
هناك عوامل واعتبارات أخرى تغذي فكرة الرد بصرامة على السلوك العدواني الإيراني، منها رغبة الأطراف الأوروبية، وكذلك الولايات المتحدة، في استغلال هذا الخطأ الإيراني الفادح في تعزيز الموقف التفاوضي الغربي في حال العودة لاستئناف مفاوضات فيينا بشأن البرنامج النووي الإيراني، حيث توقفت المفاوضات عند الجولة السادسة عند حزمة من الشروط الإيرانية الصعبة التي آثرت واشنطن تأجيل مناقشتها بانتظار تولي الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي منصبه؛ بمعنى أن الولايات المتحدة وحلفاءها قد يحاولون استغلال الفرصة لإرسال رسالة ردع أقوى بعد فشل رسائل أمريكية سابقة تمت رداً على استفزازات إيرانية في العراق، في تحقيق أهدافها، ربما لكون رسائل الردع جاءت أقل من سقف التوقعات الإيرانية ما تسبب في تمادى الملالي في سلوكهم العدواني.
اللافت أن الاعتداء الإيراني على السفينة الإسرائيلية لم يكن الأول من نوعه، ولكن رد الفعل الإسرائيلي والأمريكي عليه جاء أقوى مما سبق لأسباب لها علاقة بما سبق، أو لأن الهجوم الإيراني قد نُفذ هذه المرة بسلاح نوعي بات يثير قلق الجانب الأمريكي على وجه التحديد، وهو الطائرات الإيرانية المسيرّة، التي سبق استخدامها في شن العديد من الهجمات بالغة الخطورة من دون رد فعل دولي مناسب، مثلما كان الحال في الاعتداء على منشآت «أرامكو» النفطية في ابقيق بالمملكة العربية السعودية بطائرات إيرانية مسيرّة في سبتمبر عام 2019، والادعاء بأنه هجوم نفذته جماعة «الحوثي» اليمنية، وهو سيناريو لا يزال يتكرر بشكل أو بآخر ويمثِّل تهديداً خطيراً لأمن الطاقة العالمي.
النقطة الحاسمة، أو التي حسمت الموقف الغربي في الاعتداء الإيراني الأخير على السفينة الإسرائيلية، برأيي، تنطلق من تفاقم خطر الطائرات المسيرّة الإيرانية، ولاسيما أن التقارير الأمريكية المتخصصة تشير إلى أن إيران أصبحت من بين أول 5 دول في العالم تصنع وتشغل الطائرات المسيرّة بعد كل من الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل والصين والمملكة المتحدة، وأن نظام الملالي يمتلك طائرات من هذا النوع قادرة على تنفيذ هجمات بعيدة المدى مثلما حدث مرات عدة آخرها الهجوم على السفينة الإسرائيلية، ومنها طائرات قادرة على تنفيذ هجمات بالقنابل والصواريخ والعودة إلى قواعدها، وأخرى تقوم بتنفيذ عمليات أحادية ذات طابع انتحاري تستهدف تدمير أهداف حيوية. والخطر الذي يترتب على التكنولوجيا الإيرانية في هذا المجال مزدوج كونها تستخدم بمعرفة ميلشيا الحرس الثوري الذي قام بتوظيفها في عملياته مراراً ضد القوات والمصالح الأمريكية في العراق، فضلاً عن تصدير هذه الطائرات وكذلك تكنولوجيا تصنيعها للجماعات والميلشيات الموالية للملالي إقليمياً وتمثِّل أذرعاً عسكرية لتنفيذ مخططاتهم في دول عدة بالمنطقة، وهي جملة مخاطر تفسر اقتراح إسرائيل فرض منطقة حظر جوي للطائرات المسيرّة الإيرانية، وذلك خلال محادثات مع واشنطن جرت مؤخراً، بحسب ما ذكرت تقارير إعلامية أمريكية، بالإضافة إلى أن البيت الأبيض كان قد أكد الاتفاق مع إسرائيل مع تشكيل مجموعة عمل مشتركة بين الوكالات الأمنية المختلفة في البلدين تدرس بشكل خاص التهديد المتزايد للطائرات الإيرانية المسيَّرة وكذلك الصواريخ دقيقة التوجيه التي ينتجها نظام الملالي، وينقلها بالتبعية إلى وكلائه في الشرق الأوسط.
ملالي إيران يلعبون بالنار، ويتجهون إلى تبني خيارات انتحارية قد تتسبب في اندلاع حروب مفتوحة وصراعات إقليمية تزيد منطقة الشرق الأوسط توتراً واضطراباً.