د.عبدالله بن موسى الطاير
أمريكا لم تخلّف الأفغان ثم تقذف بهم إلى المجهول، فمنطق المسؤول الأمريكي يقول إن أمريكا قدمت فرصاً لكثير من شعوب العالم ودوله منها من استفاد ومنها من ازداد تخلفاً وتشرذماً. ويجادل بأن أمريكا حررت أوروبا من النازية في الحرب العالمية الثانية، ووضعت القارة العجوز على مسار التنمية والتعايش والازدهار وقد التقطت دولها أول الطريق وسارت عليه، ويضرب مثلاً بألمانيا التي خرجت مدمرة من الحرب الثانية، وهي الآن من أكبر القوى الدولية اقتصادياً وعسكرياً وذات نفوذ سياسي مؤثر، كذلك هو الحال مع اليابان وكوريا الجنوبية.
هذا المنطق الأمريكي يرفع لافتة دفاع في وجه اللائمين لأمريكا جراء الوضع المتردي في أفغانستان، ولسان حاله يقول إن عشرين عاماً في أفغانستان كانت كافية، فيما لوكان هناك رغبة أفغانية في استثمار الوجود الأمريكي، والاستفادة من نحو ترليوني دولار أنفقت في ذلك البلد، لصناعة واقع مختلف لأفغانستان مغاير لما كانت عليه قبل أكتوبر 2001م. الشرعية الدولية تحمل الدول مسؤولية احتلاها لدول ذات السيادة وتطالبها برعاية المكان والإنسان، لكن طالبان وأتباعها وداعميها الإقليميين لم يتعاملوا مع الأمريكيين كما تعامل معهم الألمان واليابانيون والكوريون الجنوبيون، وإنما استثمروا عشرين عاماً في مقاومة الاحتلال، وليس في البناء تحت جناح سلطته. وترى طالبان أن مقاومتها نجحت في طرد المحتل الأمريكي. نشوة النصر الطالباني تجعل الحركة وأتباعها تتطلع على الانفراد بالسلطة التي أسسها الأمريكيون، وتعتبر أن الحكومة الشرعية القائمة هي تبع لسلطة الاحتلال، وأن رحيل أمريكا يعني بالضرورة القضاء على كل ما له علاقة بها. ولذلك فإن طالبان تفاوض من جهة وتستولي على المدن والمحافظات من جهة أخرى، وهي ترى أن الأمر قد حسم باتفاقيتها مع الأمريكيين في الدوحة في غياب الحكومة الشرعية.
طالبان تتجه إلى السيطرة بالقوة على أفغانستان، مدعومة بنشوة الانتصار على أمريكا التي لحقت بالروس ومن قبلهم بريطانيا العظمى، لكنها تغفل أمراً مهماً، وهو أن أفغانستان التي انتصرت على المملكة المتحدة، وعلى الاتحاد السوفيتي، ومؤخراً على أمريكا لم تجن من انتصاراتها شيئاً، وبذلك تكون انتصاراتها قصصاً يرويها التاريخ وليس منجزات لإنسان أفغانستان ومكانه.
أمريكا أشبعت لوماً على خروجها المثير للشفقة من أفغانستان، ولذلك فإنني في هذه السطور لن أتوقف عند هذا البعد من الأزمة، ولكن أشير إلى تصريحين مهمين أحدهما للرئيس الأفغاني أشرف غني يتحدث فيه من واقع مسؤولية ويسأل عن الخليفة الذي يسلم له السلطة؟ هل هو خليفة جاء بالتغلب على السلطة المحتلة وبالتالي لن يكتسب شرعية تؤهله لحكم البلاد، ولذلك قرر الوقوف في وجه حركة طالبان باعتبارها تسعى إلى الاستيلاء بالقوة على السلطة. استمرار غني في التمسك بشرعيته سيحرج طالبان، ويضع أفغانستان على خطى اليمن، حيث شرعية يتمسك بها المجتمع الدولي، وسلطة الأمر الواقع التي يرفض أحد الاعتراف بها. أما التصريح الثاني فكان للمتحدث باسم وزارة الدفاع الأمريكية جون كيربي قال فيه إن «التهديد الإرهابي انتقل في المنطقة ولم يعد كبيراً في أفغانستان كما كان»، وإن «علينا أن نركز على تهديدات أكبر مثل تلك التي تمثلها الصين وروسيا». وهو بعبارة مختصرة يشير إلى تحقيق أمريكا أهدافها في أفغانستان، أو لربما نوع من مواساة النفس والتخفيف عنها، ولذلك فإن اتفاقها مع طالبان نهائي، وليس أمام الحكومة الشرعية سوى أن تدير مشهد الأيام الأخيرة لتركة أمريكا في أفغانستان.
المنطق الأمريكي من أن وجودها على أي نحو كان هو نعمة يجب اغتنامها، ومنطق طالبان من أن أمريكا دولة احتلال وجبت محاربتها لا يلتقيان، وقد تناثرت شظايا البون الشاسع بين المنطقين على رؤوس الأفغان الذين لم يتوقف القتل في بلادهم منذ أكثر من أربعة عقود.
الأفغان سواء الحكومة الشرعية والموالون لها الذين ينظر إليهم على أنهم أيتام أمريكا، وحركة طالبان التي ينظر إليها على أنها هزمت أمريكا بيدهم مستقبل أفغانستان، فإما أن يتحاورا ويصلا إلى معادلة للحكم تستوعب الجميع، وتحظى بالدعم الدولي، وإما أن تواصل أفغانستان مسيرة الحرب والتدمير الذاتي. قلق الأفغان، ودول الجوار، والمجتمع الدولي من سلوك طالبان مبرر عطفاً على تجربتها السابقة في الحكم، وقلق الرئيس المنتخب على مستقبل الشعب الذي انتخبه مبرر أيضاً، والمنجز الذي ترى طالبان أنها حققته مبرر أيضاً. وإذا كانت طالبان قد تغيرت فعليها أن تثبت ذلك فعلاً من خلال الجلوس إلى طاولة المفاوضات، وصياغة اتفاق لتقاسم السلطة والاحتكام للشعب، وبدون ذلك فلن تحصل على الشرعية، والاعتراف الدولي، ولن تتمكن من إدارة المناطق المحررة، ولا حتى من دخول كابل في القريب المنظور.