عبدالرحمن الحبيب
ذات مرة، وصف رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي جيروم باول مهمة البنوك المركزية بأنها تتجول في غرفة مظلمة وتستشعر طريقتها؛ تمامًا كما وصف زعيم الإصلاح الصيني دينغ شياو بينغ مسار بلاده الذي لم يسبق له مثيل في الإصلاح الاقتصادي بأنه «عبور النهر من خلال الشعور بالأحجار». هذا ما ذكره إيان بريمر، رئيس مجموعة أوراسيا، في معرض وصفه لعصرنا الاقتصادي الجديد بعد جائحة كورونا.. موضحاً أننا ندخل في مشهد اقتصادي غير مكتشف.. ستكون الشركات أكثر حذرًا في كيفية بناء سلاسل التوريد الدولية الخاصة بها، وستكون الحكومات أكثر انخراطًا في وضع معايير للاقتصاد.
هذا الوصف جاء ضمن ملف أعدته مجلة فورين بوليسي طلبت فيه من اقتصاديين ومفكرين بارزين اقتراح الاسم المناسب الذي ينبغي أن يُعرف به عصرنا الاقتصادي الجديد، لمساعدتنا على التفكير فيما سيحدث من تغيرات اقتصادية بعد جائحة كورونا، وتم عرض الجزء الأول منه في المقال السابق، وهنا التتمة.
الاسم المناسب لعصرنا هو «الليبرالية الطفولية» حسب البروفيسورة ديردري مكلوسكي (جامعة إلينوي، شيكاغو) ومؤلفة كتاب «لماذا تعمل الليبرالية» التي ترى أنه بعد الجائحة علت صيحات النداء للدولة الأم لمساعدة أطفالها البالغين بالإنفاق والتنظيم. لكنها ترى أن الليبرالية الاقتصادية الحقيقية في القرنين الماضيين جعلت الكثير من العالم غنيًا ومحترمًا.. أما العودة إلى مركزية الاقتصاد واعتماده على الدولة أي إلى الفكرة ما قبل الليبرالية القائلة إن الناس بحاجة إلى أسياد أبويين، فإنها تقتل الابتكار.
إنه عصر «التفاوت المتواصل» هذا ما أطلقته فيرا سونغوي، الأمينة التنفيذية للجنة الأمم المتحدة الاقتصادية لأفريقيا، موضحة أن الوباء أدى إلى تسريع شديد في التغيير بجميع الهياكل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.. لقد أوجد الوباء أول ملياردير في العالم بقيمة 200 مليار دولار، بينما سقط المزيد من الناس بالاقتصادات المتقدمة في براثن الفقر. كما ظهر عدم المساواة على المستوى العالمي، حيث افتقرت الدول النامية إلى السيولة المالية لدرء الأزمة بينما ضخت البلدان المتقدمة تريليونات الدولارات في اقتصاداتها، متجاهلة كل التحذيرات بشأن العجز والديون. ولكي يتقارب هذا التفاوت المتواصل في حالة مستقرة أكثر تناغمًا، فإنه يتطلب نظامًا عالميًا متعدد الأطراف متجددًا مع مؤسسات أكثر تمثيلاً وشمولية وأكثر ملاءمة لغرضها.
أما كيفين رود، المدير التنفيذي لجمعية آسيا ورئيس الوزراء الأسترالي السابق فيطلق على هذه المرحلة «المنافسة الإستراتيجية المُدارة» فلم يعد الدافع الرئيسي لهذا العصر الجديد هو العولمة الاقتصادية، ولكن المنافسة بين القوى العظمى على نحو متزايد.. ستهيمن هذه المنافسة - بشكل أساسي بين الصين وأمريكا - على كل المجالات تقريبًا.. وأيضًا على كل منطقة من مناطق العالم تقريبًا حيث تجذب البلدان والشركات والمؤسسات إلى سباق ثنائي متزايد. لهذه الأسباب، نشهد أيضًا عودة هيمنة الدولة باعتبارها الجهة المنفذة للميزة التنافسية الوطنية، ليس فقط في الصين ولكن أيضًا في أمريكا وأماكن أخرى. ستستمر هذه الفترة الجديدة حتى يتم حل نتيجة سباق التفوق العالمي.
«العشرينات المملّة» يسميها نيال فيرجسون، من معهد هوفر بجامعة ستانفورد ومؤلف كتاب «الهلاك: سياسة الكارثة»، فالعادات المملة التي أجبر معظمنا على تبنيها أثناء الوباء قد تبقى معنا لفترة أطول مما نعتقد. قد تتطلب حالات التفشي المتكررة والمتغيرات الجديدة الحصول على لقاحات معززة منتظمة، وقد تجبرنا على الاحتفاظ بهذه الكمامات المزعجة في جيوبنا وحقائبنا، وقد تجبرنا على الاستمرار في ملء النماذج عبر الإنترنت لتمكيننا من الوصول إلى المكاتب والصعود إلى الطائرات. أما من ناحية العلاقة المتصاعدة التوتر بين أمريكا والصين فيرى أنه من المرجح أنها فترة أولية من العلاقات الدبلوماسية الصعبة ستتبعها بسرعة انفراج بينهما..
إنه عصر «إعادة الاكتشاف» حسب بيتسي ستيفنسون، أستاذة السياسة العامة والاقتصاد بجامعة ميشيغان، فالناس تخرج من عام من الضياع والعزلة والتغيير، وسيحتاجون إلى إعادة إحياء الصداقات والمعارف.. واكتشاف أذواقهم في الموسيقى والرياضة.. وحتى من فقدوا وظائفهم سيكتشفون مسارات وظيفية جديدة مع زيادة فرص العمل.. لن نعود ببساطة إلى حياة ما قبل الجائحة.. لدينا فترة من التكيف الكبير بالمستقبل حيث نكتشف ما الذي يعود إلى حياتنا وما لا يعود، بالإضافة إلى ما ينمو من جديد.
نختم اقتراحات تسمية عصرنا بما بدأناه في الجزء الأول بمصطلح «الاقتصادات الضبابية» للمؤلف أنطوان أغتميل الذي سبق له أن اخترع مصطلح «الأسواق الناشئة» في الثمانينيات.. فالمعتقدات الراسخة بالديمقراطية والحلول القائمة على السوق تتعرض للهجوم من اليمين واليسار.. نحن ندخل في عصر انتقالي. في الوقت نفسه، يتم نقل شعلة التفوق العالمي إلى الصين بينما تتقلص قوة أمريكا العسكرية والاقتصادية والناعمة إلى ما دون العتبة المطلوبة للهيمنة، لكن التفوق التكنولوجي لأمريكا لم يختف، لكنه يتعرض لتهديد واضح من الصين في مجالات حاسمة.
بالنسبة للحلول التقليدية القائمة على السوق، فهي تواجه ثلاثة تحديات ضخمة: مقاومة التغيير الاجتماعي من اليمين، ورد الفعل العنيف ضد عدم المساواة الاقتصادية والعرقية من اليسار، وتغير المناخ، حسب أغتميل الذي يرى أن مصطلح «الاقتصادات الضبابية» اليوم يعد وصفة مناسبة لما بعد الجائحة لمشاكل جديدة وقديمة.