د. تنيضب الفايدي
ويقصد بالحب أصلاً حب الوطن، ولكن لابد من نظرة على الحب الآخر لما له من أثر كبير على حب الوطن، حيث إن شعر الحب أو شعر الغزل ارتبط بالديار، والمنازل، والمواقع، والوطن، ورقة شعر الغزل تستميل القلوب، وتفجر المشاعر والأحاسيس، وتعمل على تثبيت حب الوطن أو (مكان الحبيب). قال الشاعر:
إذا وجدت أوار الحب في كبدي
عمدت نحو سقاء القوم أبتردُ
هبني بردت ببرد الماء ظاهره
فمن لحرٍّ على الأحشاء يتقدُ
ولهذا الشاعر مجموعة قصائد تعتبر أسهل وأرق ما قالته العرب في الحب. ولا غرابة في الكتابة عن الحب بمعناه الشامل، وأن يشاع كل ما يؤدي إلى حب الوطن بين الناس وقائل البيتين السابقين يعد أحد الفقهاء، بل أحد رواة الحديث، فقد روى عن أنس بن مالك رضي الله عنه، وروى عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه، كما لا تستغرب أيها القارئ العزيز من ذلك المحب الذي سبب له الحب السهد، والأرق، والسهر، فخاف أن يقتله فأخذ يستصرخ بالنائمين ويوقظهم لعله يحصل على جواب عن سؤاله:
ألا أيها النوامُ ويحكم هبُّوا
أسائلكم هل يقتل الرجّلَ الحبُّ؟
والشيء بالشيء يُذكر هناك كلمات مخيفة مثل (القتل، التلف، الهلاك، الذبح) لا تتناسب مع لغة الحب، لكن عندما يتناولها الشعراء تصبح رقيقة وتثير المشاعر، والشواهد التالية على الكلمات المرعبة السابقة قد تم اختيار بعضها من قصائد اقترنت بالوطن ومنازل الحبيب.
وقد ذكرت كلمة «القتل» في (الحب):
ثلاثة أحبابٍ فحبُّ علاقةٍ
وحب تملاقٍ وحبٌّ هو القتلُ
ويأتي (الهلاك) من سحر العيون:
نظرُ العيونِ إلى العيون هو الذي
جعل «الهلاك» إلى الفؤاد سبيلاً
ما زالت اللحظاتُ تغزو قلبه
حتى تشحّط بينهن «قتيلاً»
و»الإتلاف» وردت في:
قلبي يحدثني أنك «متلفِي»
روحي فداك عرفتَ أم لم تعرفِ
و»الذبح» في الحب:
أتُراها تحبّني ميسونُ
أم توهّمتُ والنساء ظنونُ
كم رسولٍ أرسلته لأبيها
«ذبحته» تحت النقاب العيونُ
ويتذكر المحب دائماً من أحبه، ويحبه أهله ومن يحيط به، ويحبّ داره، وموطنه، بل ويملأ عليه أقطار نفسه.
قالت ميسون بنت بحدل بن أنيف من بني حارثة بن جناب الكلبية:
فما أبغي سوى وطني بديلاً
فحسبي ذاك من وطنٍ شريف
وميسون هي زوج معاوية رضي الله عنه وأم ابنه يزيد، قالت ذلك البيت ضمن قصيدة تتشوق إلى وطنها نجد:
لبيت تخفق الأرواح فيه
أحبّ إلي من قصر منيف
وبكر يتبع الأظعان سقباً
أحب إلي من بغل زفوف
وكلب ينبح الطراق دوني
أحب إلي من قط ألوف
ولبس عباءة وتقر عيني
أحبّ إلي من لبس الشفوف
وأكل كسيرة في كسر بيتي
أحبّ إلي من أكل الرغيف
وأصوات الرياح بكل فج
أحبّ إلي من نقر الدفوف
وخِرْقٍ من بني عمي نحيف
أحب إليّ من علج عليف
«خشونة عيشي في البدو أشهى
إلى نفسي من العيش الطريف»
فما أبغى سوى وطني بديلاً
فحسبي ذاك من وطنٍ شريف
قال معاوية رضي الله عنه حين سمع هذه الأبيات: «ما رضيت يا ابنة بحدل حتى جعلتني علجاً عليفاً، فالحقي بأهلك». فطلقها، وألحقها بأهلها، وقال: «كنتِِ فبنتِ» فقالت: لا والله، ما سررنا إذ كنّا، ولا أسفنا إذ بنّا «. وكانت حاملاً بيزيد، فوضعته في البرية، فمن ثَمَّ كان فصيحاً صلباً. ومكان ميلاده ما بين العشاش (سلاح ) وتيماء فهي منطقة صحراوية واسعة وجافة. وقد اتسعت الدولة الإسلامية وكثرت الفتوحات شرقاً وغرباً في عهد يزيد بن معاوية المفترى عليه وضمّت مساحات شاسعة ولم تبلغ حدود الدولة الإسلامية تلك المساحات إلا في عهده، وبعد خلافته أصبحت تتناقص حتى أصبحت على ما هي عليه الآن.
وتظهر إجابة ميسون لمعاوية قوة شخصية المرأة العربية وشموخها، واعتزازها بنفسها وبقومها وبوطنها.
وهذه شاعرة أخرى من نجد ضبّية تسمى حسّانة انتقلت من نجد وعمل لها بركة بين الأزهار والورود والرياحين، وقيل لها أليس هذا المكان أحسن من نجد!! وألطف مما كنتِ فيه من البادية، فأطرقت قليلاً ثم قالت:
أقولُ لأدنى صاحبيَّ أسرُّه
وللعين دمْعٌ يحدِرُ الكحلَ ساكبُه
لعمري لنهرٌ باللّوى نازحُ القذَى
بعيدُ النواحي غيرُ طرْقٍ مشاربُه
أحبُّ إلينا من صهاريجَ ملِّئتْ
للعبٍ ولم تمْلُحْ لديَّ ملاعبُه
فيا حبّذا نجدٌ وطيبُ ترابه
إذا هضبتْه بالعشِيّ هواضَبُه
وريحُ صبا نجدٍ إذا ما تنسَّمت
ضحىً أو سرتْ جنحَ الظلام جنائبُه
وأقسِمُ لا أنساه ما دمتُ حيَّةً
وما دام ليلٌ من نهارٍ يعاقبُه