كان وما زال يبهرني مصورّو الحروب. أولئك الذين يضعون حياتهم على المحك من أجل صورة. فتأتي تكلفة الصورة باهظة كحياتهم. ما الذي يجعل مصوراً يفعل ما يفعل؟ لا أعرف ولكن ما أعرفه يقيناً هو أنني الأخرى امتلك شيئاً ما يجعلني أضع حياتي أحياناً على المحك فقط من أجل الحصول على حكاية.
سأعترف، في الكتابة لي طقوسي الخاصة واليوم فقط وصلت المرحلة التي لا أطل فيها على القارئ إلا ولدي حكاية من العيار الثقيل علني أرضي تطلعاته. وحكاية اليوم هي إيفلين.
تبدأ تفاصيل الحكاية في صيف 2021، بوسطن -الولايات المتحدة الأمريكية. هناك تقاطعت طريقي مع إيفلين. امرأة بيضاء من أم إسبانية وأب إسكتلندي. عاشت مشردة لمدة 12 سنة رغم أن ابنتها تعمل رئيساً لقسم العلاج التنفسي بأحد المستشفيات في أمريكا. لدى هذه المرأة قدرة على الاسترسال في الحديث لدرجة يتحول معها الاعتذار وإنهاء الحوار مهمة مستحيلة.
كغريب قد يروق لك في البداية الاستماع إلى حديثها إلى أن تبدأ في سماع الكلمات الخطر، كأن تسمع بأنها رأت الملك ديفيد -وهو رمز في ديانتها- ماثلاً أمامها وكاد يقتلها بسبب وشاية أحدهم بها. ستقول لك إيفلين بأنها تحاورت مع الشيطان وأخبرته بأنها لن تترك الطريق الذي اختاره لها الرب، وكيف أنها رأت المسيح ماثلاً أمامها. إيفلين تستشير الرب دائما في تحركاتها حتى أنها سألته مرة: إذا كان باستطاعتها الحديث معي، فأجابها على حد قولها: «بأني شخص جيد».
بعد بضع حوارات ستعرف بأن هذه المرأة تعيش ما بين عالمين. إيفلين دائماً توقظ فيني السؤال: إذا كنا نولد أسوياء فما الذي يجعل البعض منا منفصلاً عن واقعه؟ وإيفلين ذاتها هي من يوقظ فيني الرغبة في الوصول إلى الإجابة. في أن أمسك بالخيط الذي يوصلني للبداية في حكايتها فأنا شخص تستهويني البدايات ونقاط التحول. عدا ذلك غير مهم أبداً. وعليه، قرَّرت أن التقي بها على مدار ستة أسابيع رغم كل النصائح التي تأتيني للابتعاد عنها. ثمة شيء كان يدفعني إلى أن أبقى لأني لن أستطيع الحصول على الإجابة من حوار واحد. كنت ببساطة أريد أن أعرف وكان هذا سبباً كافياً إلى أن أخوض مغامرة.
جزء مني خائف وجزء منى مشفق وجزء آخر متردد ولكن الجانب الذي يريد أن يعرف الحقيقة كان سيد الموقف. كنت كمن يضع رأسه في فم الأسد وهو يعلم بأنه قد لا ينجو فقط من أجل حكاية. ثمة فضول يدفعنا نحن الذين نبحث عن الحقيقة ولا نقف إلا بعد الحصول عليها.
في الأيام التي لا تكون فيها إيفلين بمزاج جيد قد تسمع جملة على النحو التالي: «أنت لا تعرفين مع من تجلسين؟» وهذا مؤشر لأمر غير جيد أبداً ليكون رد الفعل الصحيح وقتها هو أن تنهي الحوار معها إذا أردت أن تعود لوطنك حياً. إيفلين امرأة من تكساس تجيد إطلاق النار. تقول إيفلين بأنها في خيالها فقط حملت machine gun وأطلقت النار على «بروس»، الرجل الأسود الذي اغتصبها عندما كانت في23 من العمر، وأنجبت منه وبقيت في علاقة سامة معه جعلتها في حالة هروب مستمر على مدار أربعين سنة من حياتها، ومع ذلك بروس لم يكن الخيط الأول في الحكاية. بروس هو النتيجة وليس السبب.
تعتقد إيفلين بشكل قطعي بأن والدتها ذهبت للجحيم لأنها تستخدم الشعوذة. والدة إيفلين امرأة أجادت العنف الجسدي مع أطفالها مما دفع بإيفلين للهروب من المنزل في الثانية والعشرين من العمر بعد وفاة والدها. بعدها قابلت بروس، الشاب الذي كان يملك شيئاً من حنان والدها أو هكذا خيل لها. فبقيت معه في علاقة كلها غضب، عنف وتعلق لسنين قبل أن يفترقا، حتى وجد متوفىً في منزله في نيويورك.
تشرح لي إيفلين كيف تصلي وكيف أنها تطلب من الرب أن يزيل الأشخاص السيئين من حياتها، لتأتي صلواتها على النحو التالي: God, remove him. وتعني بذلك «اقتله». لذلك ستجد في حكايتها أشخاص كثر وجدوا قتلى أو أموات.
تريد إيفلين زيارة السعودية لإنقاذ الأطفال بينما تنقذ ابنتها كبار السن في مهمة وهمية. تعتقد بأنها ستقدم أبحاث مهمة عن أمراض السرطان عند الأطفال. ولو سألتها في وقت لاحق لماذا لم تعملي لمدة 12 سنة ستجيب «بأنها لا تريد لأي شيء أن يبعدها عن طريقها للرب ولكنها ستكتب كتاباً» ووعدتني بأني سأكون بطلة في حكايتها باسم D، وسأكون الفتاة العربية الطيبة.
من حكاية إيفلين رأيت كيف تتقاطع حكايات المشردين وكيف تبدأ كل قصصهم بعنف ما، ثم محاولة للبحث عن القبول لدى الأشخاص «الخطأ» والذين سيدمرون غالباً في ضحاياهم ما تبقى منهم إلى الحد الذي لا يبقى فيهم من أنفسهم شيئاً. لينتهي بهم المطاف غالبا باضطرابات ذهنية وسلوكية تجعلهم يهربون من كل شيء.
أخيراً، أمسك بالحكاية مرة أخرى وأحاول إعادة تشكيلها لأعطي القارئ نهاية جميلة. أضع إيفلين في ظروف مثالية وفي بيت يتحدث ساكنوه الاحترام والحب وأفكر ماذا يمكن أن تكون هذه المرأة لو عاشت في ظل ذلك؟ هل ستلتقي ببروس أصلاً؟ لا أعتقد أبدا.
** **
- عهود المالكي