عبدالرحيم أبوالمكارم حماد
بدأت الشرارة في تونس عندما قام البائع المتجول محمد البوعزيزي بإضرام النار في جسده في مدينة سيدي بوزيد احتجاجاً على احتجاز السلطات المحلية بضاعته، لتندلع بذلك شرارة الثورة في تونس التي توسعت بعد ذلك إلى دول عربية أخرى وتسقط أنظمة. لقد منحت مواقع التواصل الاجتماعي والهواتف الذكية المتظاهرين الشباب خلال المظاهرات وسيلة تقنية ساعدتهم على الإطاحة بأنظمة، بعد أن انتشرت بواسطتها روح الثورة.
فقد ساهمت مواقع التواصل الاجتماعي بعض الثورات في الإطاحة بالأنظمة التي كانت تحكم لسنين طويلة، لكن أعقبتها تبعات لم تكن متوقعة وجنت الشعوب من وراها الدمار والفقر والبطالة والتشريد.
يجدر الإشارة إلى تلقي عدد من الجماعات والأفراد الضالعين مباشرة في الثورات والإصلاحات التي تجتاح المنطقة، بما في ذلك مركز البحرين لحقوق الإنسان ونشطاء على مستوى القاعدة الشعبية، التدريب والتمويل من جماعات مثل المعهد الجمهوري الدولي، والمعهد الديمقراطي الوطني وفريدوم هاوس، وهي منظمات غير ربحية لحقوق الإنسان مقرها في واشنطن تم انشاؤها من قبل الكونغرس وتمولها واشنطن.
إن الانتفاضات كانت جزءاً من حملة جيوسياسية ضخمة ولدت في الغرب والتي نفذت من خلال وكلائها بمساعدة المؤسسات المخادعة والمنظمات غير الحكومية.
في البداية علق كثيرون من أبناء الشعوب التي اندلعت عندهم الثورة آمالاً على «الربيع العربي»، وتطلعوا إلى أن يجلب معه حكومات جديدة من شأنها تحقيق الإصلاح السياسي الذي يحقق مشاركة حقيقية في السلطة، والعدالة الاجتماعية التي تضمن توزيعا عادلا للثروة يخرجهم من دائرة الفقر والبطالة. ورفع ملايين من الشباب العربي الشعار الشهير «الشعب يريد إسقاط النظام» في عدة دول عربية، في احتجاجات وتظاهرات اندلعت عام 2011 سعيا لتغيير نظم الحكم التي تتحمل مسؤولية الأوضاع القاسية التي وصلت إليها بلادهم.
مع الوقت تحولت النشوة التي رافقت تلك الاحتجاجات في الشوارع والساحات إلى خيبة أمل. وانقلبت صورة المظاهرات والشعارات إلى صراع مسلح يطحن الجميع، كما حدث في سورية وليبيا واليمن.
بعد سنوات من انطلاق الثورات، صار حال العرب أسوأ، لكن الشعوب فهمت محنتها بشكل أفضل، وبقيت الصورة الآن مخيبة للآمال إلى حد كبير.
إذا كانت الثورة من أجل الحرية، فإنه زاد عدد المأسورين
إذا كانت الثورة من أجل الجوع، فزاد عدد المعولين
إذا كانت الثورة من أجل السكن، فزاد عدد المشردين
إذا كانت الثورة من أجل الديموقراطية، فزدنا بعدا عن الإسلام الوسطي المعتدل.
مع مر الوقت تغير اللفظ إلى الشتاء العربي»، وهو مصطلح ظهر هنا وهناك مع عسكرة الثورات وصعود التطرف الديني واندلاع الحروب والنزاعات، تحولت بها المظاهرات غير المسلحة ضد الحكومات في سوريا وليبيا واليمن إلى حرب أهلية ضارية ذات طابع طائفي، صدمت الجميع.
النظام العالمي الجديد مخطط له أن يكون منذ عقود، وما كان تأخيره في أوائل التسعينات أي قبل عشرين عاماً إلا لأن الخطة تغيّرت قليلاً، وحفزت قوى الشر الدولية الشعوب العربية على الثورة ضد الحكومات، لكي تخضع لها في كل شيء وتعمل بها ما تشاء، وفي حالة عدم قيام الشعوب بالثورة ضد الحكومات فسوف تعمل على إحدث الاضطرابات والخلافات والتشتت التي ينتج عنها مجاعات وعدم استقرار لكي تبقى الحكومات عاجزة ثم يأتي التدخل.
من منا يستطيع أن ينكر أو لم يشاهد ما صنعته أمريكا بالعراق من احتلال وتقسيم، وما جرى في السودان من تقسيم إلى دولتين، له دوافع وأسباب مصطنعة، ومن منا لا يتابع ما يجري في عموم المنطقة العربية من أحداث مأساوية وفوضى، فذاك لم يكون أمرا مفاجأة، جاء وليد الأحداث التي أنتجته، ولكن الحقيقة الكبرى هي أن ما يحدث الآن هو تحقيق وتنفيذ للمخطط الاستعماري الذي خططته وصاغته وأعلنته الصهيونية والصليبية العالمية، لتفتيت الوطن العربي والعالم الإسلامي، من خلال أنظمة جديدة وسياسات واستراتيجيات ومشاريع باتت مكشوفة للعالم وأبرزها: مشروع تفتيت الوطن العربي الذي أعده بن غوريون وخبراء الأمن القومي الأمريكان والبريطانيين عام 1953 والذي تطور بعد ذلك تبعا لأحداث ومتغيرات مرت بها المنطقة، وتم نشره تباعا خلال السبعينات والثمانينات من القرن الماضي ثم تجدد نشره أيضا في العقد الأول من هذا القرن بصيغ وعناوين أكثر تفصيلا ومن قبل صحفيين عالميين وسياسيين غربيين، وكذلك مشروع الفوضى الخلاقة (كتابات اليوت كوهين) و(صياغة مايكل ليدن) وطروحات (الرئيس بوش الابن وكونداليزا رايس)، ومشاريع الشرق الأوسط الجديد (شمعون بيرس) والشرق الأوسط الكبير (الرئيس بوش الابن) والشرق الأوسط الجديد (كونداليزا رايس) ومشروع خريطة الدم (رالف بيترز) و(مشروع لويس) وغيرها.
كل هذه المشاريع تعود إلى أصل واحد ومنبت أمريكي إسرائيلي بريطاني مشترك وبدعم من الصهيونية العالمية، وإن تغيرت بنودها وتوقيتات طرحها.
فهي تستهدف القضاء على الإسلام وتجزئة الوطن العربي والاستحواذ على ثرواته ومقدراته والتحكم فيه حاضرا ومستقبلا وتحويله إلى (فسيفساء ورقية) يكون فيه الكيان الغاصب السيد المطاع.
لم يكن الربيع العربي مربحاً للولايات المتحدة الأمريكية، ففي مستهل الأمر كانت تعتقد أنها أمام شرق أوسط راكد، تمتعت فيه بتحالفات يمكن أن تعتمد عليها في دول المنطقة. ولم تستطع أن تجاري الأحداث المتتابعة في مصر التي انتخب فيها رئيس إخواني هو محمد مرسي، ثم عزله الجيش بعد عام، وسط مطالبات شعبية بتنحيه.
ولا تزال أمريكا بالطبع قوة عظمى، ولكنها لم تعد تفرض الأمور في الشرق الأوسط. وهي لا تعاني وحدها من هذا الفشل، فتركيا أيضاً لم تختر الجانب الفائز في مصر، وتتعثر في علاقات إشكالية مع بعض دول المنطقة.
وبالنظر إلى الملف الليبي، التي لا يستطيع أحد التكهن بشأنها. في ليبيا كشفت محدودية تدخل الدول الغربية في الأحداث التي شهدتها، فقد نجح سلاح الجو البريطاني والفرنسي في إسقاط نظام القذافي الرئيس السابق، لكنه لم يتمكن من ضمان أن تحل محله الديمقراطية والاستقرار.
راقب تيارات الإسلام السياسي انهيار الأنظمة السياسية في بعض الدول ومنهم الجهاديين وبلغ صعودهم أوجه في العام 2014 حين أعلن أبو بكر البغدادي الذي قتل في تشرين الثاني/ نوفمبر 2019، قيام «الخلافة الإسلامية» في مناطق فاقت مساحة بريطانيا وامتدت بين العراق وسوريا.
في مصر من الصعود إلى هرم السلطة، إلى النزول إلى أقبية السجون أو الفرار إلى المنفى، جملة قد تلخص وضع جماعة الإخوان المسلمين بعد أكثر من عقد على ثورة يناير التي أطاحت بنظام حسني مبارك، والتي شارك فيها الإخوان للوصول إلى مقاليد الحكم في مصر.
وفي نهاية كانون الأول/ ديسمبر 2013، صنفت السلطات المصرية جماعة الإخوان المسلمين «تنظيماً إرهابياً بعد حملهم السلاح في وجه الدولة والشعب.
وتجد بعض قيادات الإخوان الهاربة من مصر منافذ إعلامية لمعارضة النظام المصري في كل من تركيا وقطر. لكن هذا الأمر قد يتغير بعد المصالحة التي حصلت أخيراً بين السعودية والإمارات والبحرين ومصر من جهة وقطر من جهة ثانية.
استطاعت مصر خلال فترة رئاسة السيسي أن تحصر بؤرة الحركات المسلحة في سيناء. وحققت، حسب مراقبين، نجاحات عديدة فيما يخص مكافحة الإرهاب.
لم يكن أحد يتوقع في البداية أن تستفيد إيران من الربيع العربي. ففي بادئ الأمر كانت إيران مهمشة مثقلة بالعقوبات المفروضة عليها بسبب طموحاتها النووية. ولكن يستحيل اليوم تخيل أي حل في سوريا أو اليمن دون موافقة إيران، بل إنها دخلت في محادثات مع الغرب بشأن هذا البرنامج النووي، تحت الرئاسة الجديدة.
فشل تيارات الإسلام السياسي لم يكن ذلك خبراً ساراً لقطر، تلك الإمارة الخليجية الصغيرة الطموحة التي دعمت الإخوان في معركة السلطة في مصر. ومع بداية الربيع العربي أيضا، كانت قطر، وهي تدعم الثوار في ليبيا تبدو كأنها تسير وفق خطة استراتيجية لتوسيع نفوذها في المنطقة. أما الآن، فالأمر لم يعد كذلك.
لا توجد طريقة لتجميع تأثير الثورات العربية بدقة في دروس مطمئنة للمستقبل. في حين أن عدد القتلى وأضرار البنية التحتية في ليبيا ظلت عدة مرات أقل من إراقة الدماء في سوريا، إلا أنها لا تمثل قصة نجاح. مع أن منطقة حظر الطيران التي فرضها الغرب قللت من معاناة المدنيين إلا أنها لم تكن تهدف أبداً إلى بناء دولة، ممّا أدى إلى الحرب الأهلية وأسواق عبيد لبيع المهاجرين وتدهور حالة حقوق الإنسان التي ستظل إرثاً مخجلاً للمجتمع الدولي الذي تدخل، لكنه فشل في ذلك من خلال عدم المتابعة.
لا شك في أن «الربيع العربي» فشل فشلًا ذريعاً، فبدلًا من أن يفسح الطريق أمام الديمقراطية ويكون بداية زمنٍ من الإستقرار والتطور، لم يأتِ إلا بالتفكك والاضطراب لسكان المنطقة الذين يعانون أساسا من الفقر المنتشر ونقص الفرص، وأضاف إلى معاناتهم اليوم تردي الأحوال الأمنية وغموض المستقبل.
ويحن بعض الشعوب إلى زمن ما قبل الربيع العربي، إذ كان يؤمن لهم فرص العمل والأمن، أما اليوم، فيعيشون في غموض الغد والخوف من العجز عن تأمين لقمة العيش لعائلاتهم. إلّا أن الطبقتين الفقيرة والوسطى (إن وجدت) لا تترحمان على أيام الدكتاتورية، لكن إذا اقتضى الاختيار بين الخبز أو الديمقراطية، لاختارتا الخبز لأن الحياة، في نهاية المطاف، أهمّ من أي شيء آخر.
عندما بدأ العالم يتكلم عن «الربيع العربي»، وكان ذلك سابقا لأوانه بكثير. وسقطت بعدها اليمن وتبعتها ليبيا، وكان ذلك مأساويا بقدر ما كانت ولاية القذافي طويلة. وأخيراً وليس آخراً، أصيبت سوريا بالمرض عينه، فانتشر الموت في كل أرجائها، لكن من دون الإطاحة بالرئيس الأسد الذي ما زال يمسك بزمام السلطة وبات أخطر من أي وقتٍ مضى، ولا يتردد في استخدام الأسلحة الكيميائية على شعبه.
تيارات الإسلام السياسي تدمرت، لا تعيش حركة الإخوان المسلمين، الآن، أحسن أوقاتها، وإذا كان لنا أن نسمّي ما حصل معها في مصر بالنكسة لها، فما جرى ويجري معها في تونس، هذه الأيام، فيمكن تسميته وبضمير مرتاح: النكبة!
إذ إن الجماعة في مصر أمام مأزق داخلي يدفعها للدخول في طريق مظلم جدا، وأعتقد أن الإخوان يتجهون نحو مرحلة تفكك وتحلل الجماعة بشكل نهائي داخل مصر، لكن سيبقى تنظيمها الدولي، وستحاول قياداتها المصرية التي تعيش في الخارج عبر وسائل الإعلام الترويج بأن الجماعة مازالت موجودة فى الساحة المصرية.
تلك الجماعة التي تصف نفسها بأنها المثال الوسطي الرشيد للإسلام السياسي، والتي تضم بين أطياف جماعتها عدداً كبيراً من المتشددين ودعاة العنف. وقد ظهر ذلك بسذاجة في العديد من المواقف، والأحداث الإرهابية التي شهدتها مصر ولاسيما منطقة سيناء.
لم تستغل الجماعة وصولها إلى الحكم لتعقد حالة تصالح مع كلّ المختلفين معها، وتبدأ كتابة عهد جديد، بل أصرت بعد وصولها إلى السلطة على أن تبقى سرية، ورفضت أن تقونن وضعها وتصبح جماعة شرعية وفق قوانين الدولة التي تحكمها، الأمر الذي سهّل الحكم عليها بأنها جماعة سرّية تحكم البلاد من وراء الستار، ولديها خطط «شريرة» لهدم الدولة والبقاء في السلطة إلى الأبد.
أما في تونس فإن حركة النهضة الإخوانية بقيادة الغنوشي كتب الرئيس قيس سعيد شهادة وفاة لها إذ إنه بموجب المادة 80 من الدستور التونسي، اتخذ الرئيس قيس سعيد، قرارات بتجميد كل سلطات مجلس النواب ورفع الحصانة عن كل أعضاء البرلمان وإعفاء رئيس الوزراء هشام المشيشي من منصبه، بعد تظاهر آلاف التونسيين في عدة مدن تونسية، احتجاجا على حزب النهضة الحاكم، منتقدين ما وصفوه بإخفاقات الحكومة وسط معدلات انتشار كبيرة لفيروس كورونا، مطالبين برحيل الحكومة وحل البرلمان قبل تطورها إلى إشتباكات مع قوات الأمن.
يمكن القول بأن تيار الإسلام السياسي (الإخوان المسلمين) فشل في أن يقدم نفسه كبديل سياسي مقنع للشعوب العربية في هذه المرحلة الحساسة»، ولم تطرح حركات الإسلام السياسي أولويات حقيقية ولم تستطع أن تنشئ مشروعاً سياسياً أو أن تكون لها قيادات فاعلة ومحبوبة من قبل الناس، بل دخلت في خلافات مع الأطراف الأخرى ومؤسسات الدولة من أجل البقاء في السلطة، ولذلك عندما ضربت وجدت نفسها معزولة ولم يقف معها أحد.