د.محمد بن عبدالرحمن البشر
في فترة كانت فيها الخلافة العباسية ضعيفة، ومفككة استطاع معز الدولة أحمد البويهي، أن يدخل بغداد، في خلافة المقتدر العباسي، المغلوب على أمره، في فترة من ضياع الخلافة العباسية، ذلك في عام 334 هجرية، وكانت دولة بني العباس آنذاك قد تقاطعها الأمراء هنا أو هناك، ولم يبق للخليفة من الأمر سوى اسمه، وكانت بغداد تئن تحت وطأ صراع القادة الأتراك الذين يتنازعون الحكم باسم الخليفة البائس، وبعد مماحكات وقصص يطول ذكرها، حدثت وحشة بين معز الدولة والخليفة، بسبب محاولة الخليفة المطالبة بشيء من صلاحياته، فلم يرق ذلك لمعز الدولة، فأقام ذات يوم احتفالاً، واجلس الخليفة على الكرسي، وبعد فترة وجيزة تقدم إلى الخليفة، اثنان من الديلم اعوان معز الدولة البويهية وقدموا أيديهم إليه، وظن أنهم أرادوا تقبيل يده، فمدها إليهم، لكنهم جروه من فوق كرسي خلافته، وأخذوه بعمامته، إلى معز الدولة، الذي خلعه وسمل عينيه، وبقي محتجزاً في دار الخلافة حتى توفي، ثم أحضر أبا القاسم الفضل بن المقتدر بالله، فبايعه بالخلافة، ولقبه بالمطيع لله، وجعله حبيس بيته، وبعض الأماكن المحدودة، وأصبح معز الدولة البويهي حاكماً بلغ في سعده وحكمه ما لم يبلغ أحد من خلفاء بني العباس، وقد حاول المستكفي بالله الحمداني أن ينازعه سلطانه، لكنه حاربه وانتصر عليه، ثم صالحه على أن يدفع الحمداني مبلغاً من المال كل عام، وأن يدعو له في الخطبة، فتم ذلك. والحقيقة أن معز الدولة البويهي قد عمل الكثير لبغداد بعد عناء وهروب للتجار منها، خشية مصادرة أموالهم من قبل الحكام الذين يتنازعون الحكم، فكل من تقَّلد الأمر، صادر ما بيد التجار، لكنه أعاد الأمن وبنى المستشفيات، وأعاد الأموال المصادرة إلى أصحابها، وتصدق بمعظم ما يملك، واعتق عبيده، كما يقول ابن الأثير، أما النهضة الأدبية والمطارحات والمساجلات الفكرية فكانت قائمة. في ظل هذه الأجواء عاش المتنبي، وابن المظفر الحاتمي، وأبو حيان التوحيدي، والكسائي وابن جني، وابن نفطوية، وغيرهم فكان نتاجاً فكرياً مفتوحاً دون قيود كبيرة، لهذا وصلنا الكثير من العلوم والروائع الأدبية المميزة والكثيرة والمتنوعة، وبقي بعض مما نجا من الاندثار، فوصل إلينا لنقرأه ونستمتع به، ونعرف من خلاله على شيء من الوضع السياسي والأدبي، لأسلافنا أولئك الأدباء.
أبو علي محمد بن الحسن المظفر الحاتمي البغدادي ولد في بغداد عام 310 هجرية وتوفي عام 388، وهذا يعني أنه عاصر المتنبي الذي ولد عام 303 هجرية، وكتب كتابه «الرسالة الموضحة في ذكر سرقات أبي الطيب المتنبي، وساقط شعره» وكان والده الحسن محباً للغة والأدب، وقد سار الابن في هذا الطريق لكنه تميز عن أبيه بسرعة الحفظ، والقدرة اللغوية، والنقد، ولا غرابة أنه ذهب إلى سيف الدولة الحمداني في شبابه، وأنه أكرمه وقربه كما يقول، وفي ذلك الوقت قابل المتنبي، وكان المتنبي ذئع الصيت يطلب الحكام وده أملاً في ثنائه ومدحه، ويبدو أن ذلك قد أظهر ما كان مكبوتاً من جبلة الحاتمي وطبعه، فقد أخذ الحسد يسري في عروقه، والغيرة تحرق فؤاده ولسانه، والحقد يؤرق ليله ونهاره، فاستخدم براعته في اللغة، ومهارته في الكذب لإظهار نفسه على حساب نجاح الآخرين بالنيل منهم.
وسنورد بعضاً مما ذكره معاصروه عنه، فقد قال أبو حيان التوحيدي عنه: وأما الحاتمي فغليظ اللفظ كثير العقد، وهو لم يكن حضرياً، عزيز المحفوظ جامع النظم والنثر، وقد كان من جلسائه المهلبي وزير معز الدولة، ويذكر ابن حيان أن هناك تشابهاً بينهما في الجفوة وقلة السلامة، والبعد عن المسلوك، بادئ العورة، فيما يقول، لكأنما يبرز ما يخفي، ويكرر ما يصفي، له سكرة في القول إذا أفاق منها خمر، وإذا خمر سدر، يتطاول شاخطأ، فيتضاءل متقاعساً، إذا صدق فهو مهين، وإذا كذب فهو مشين. أما ابن الجوزي فقد قدح في الحاتمي، وفي شيخه محمد بن عبدالواحد أبو عمر اللغوي الزاهد، فقال: إنه غلام ثعلب، وذكر أن تلميذه الحاتمي، يسايره في كذبه، وضرب مثلاً لذلك.
أما جلال الدين السيوطي، فلا يقبل قوله ويرى أنه يفسر الأمور على غير حقيقتها، بقول بعضها بنفسه، فيقول عنه «وزعم الحاتمي أن النابغة سئل، من أشعر الناس؟ فقال: من أستجيد جيدة، وأضحك رديئة» ويقول السيوطي، وهذا كلام يستحيل مثله من النابغة، لأنه إذا أضحك رديئة كان من سفلة الشعراء، إلاَّ أن يكون ذلك في الهجاء خاصة.
هذا ما قاله بعض معاصريه، ومن جاء بعدهم من العلماء والأدباء، والحقيقة أن نفسية، وحبلَّة هذا الرجل تستحق الدراسة والتعمق، لأن صفاته تكاد تنطبق على بعض من الناس في مجال الأدب والعلوم بأنواعها، حتى الشرعية منها، وكذلك رجال ونساء السياسة والثروة والاقتصاد، وحتى الطرب والغناء والألعاب الرياضية، والجمال الجسدي، وغيرها. والنفس البشرية لا تخلو من الغيرة والحسد، ولكن الإنسان بإيمانه، وتدبره، وثاقب نظرته، وحكمته، وكياسته، قد يحد منها كثيراً، أو يزيلها إن استطاع، أما الحقد والعياذ بالله فإنه أسوأ الصفات وأقبحها، حمانا الله وإياكم من الحقد والحاقدين، وبلغنا جنة النعيم.
يقول الشاعر:
كل العداوة قد يرجى براءتها
إلاَّ عداوة من عاداك عن حسد
ويبدو أن الحاتمي كان حاسداً للمتنبي، غيوراً من شهرته، واحترام الحكام له، وهذه جبلة ورثها، وكان الكذب سلاحه في النيل من المتنبي، ونسي أو تناسى أن مساحة النجاح واسعة لتسع آلاف الناجحين، وهو والمتنبي منهم.