د. عبدالحق عزوزي
تجددت المظاهرات في فرنسا للأسبوع الرابع على التوالي احتجاجًا على قرار فرض الشهادة الصحية والتطعيم الإلزامي على مقدمي الرعاية. وابتداء من هذا الأسبوع سيُسمح فقط لحاملي هذه الشهادة، بدخول بعض الأماكن مثل المقاهي والمطاعم وصالات العروض والمعارض المهنية أو ركوب الطائرة والقطار والحافلات لمسافة طويلة. كما أقر المجلس الدستوري الفرنسي، الذي يعتبر أعلى سلطة قضائية في البلاد، غالبية بنود قانون توسيع استخدام الشهادة الصحية المثير للجدل. كما أقر المجلس إلزامية تلقي التطعيم ضد فيروس كورونا للعاملين في القطاع الصحي في فرنسا. بالمقابل، رفض المجلس فرض الشهادة الصحية على الأطفال القصر. وحسب المحكمة الدستورية فإن القيود التي صوت عليها البرلمان الشهر الماضي «توازن» بين مخاوف الصحة العامة والحرية الشخصية... ولكن هاته المظاهرات الفرنسية ليست لصيقة «بالدكتاتورية الصحية» التي يقول المتظاهرون أن الرئيس ماكرون يفرضها على المواطنين في خرق لمبادئ حقوق الإنسان والحريات العامة، وإنما هي ظاهرة وعادة فرنسية بامتياز....
ففي السنين الأخيرة، تابع العالم ما قام به المتظاهرون الفرنسيون الذين يرتدون السترات الصفراء والتي كان يتعين على جميع سائقي السيارات في فرنسا حملها في سياراتهم، في جميع أنحاء البلاد وما وضعوه من حواجز محترقة وقوافل من الشاحنات بطيئة الحركة مما عرقل الوصول إلى مستودعات الوقود ومراكز التسوق وبعض المصانع. وكان المحتجون يعارضون الضرائب التي فرضها ماكرون على الديزل والبنزين لتشجيع الناس على الانتقال إلى وسائل نقل أكثر ملاءمة للبيئة. ومن كان حاضرًا في تلك الفترة في باريس وزار جادة الشنازيليزي المشهورة لظن نفسه في ساحة تمثيل فيلم حربي هوليودي... فقد استخدمت الشرطة الفرنسية في تلك الفترة ولأشهر متتالية الغاز المسيل للدموع ضد متظاهري «السترات الصفراء»، واستعملت كل وسائل الفر والكر...
ثم كانت هناك في هاته السنين الأخيرة مظاهرات فرنسية ضد إصلاح نظام التقاعد في محاولة من النقابات والمضربين من جعل الحكومة ترضخ لمطالبهم وإيقاف «النظام الشامل» للتقاعد الذي يُفترض أن يحل اعتبارًا من عام 2025، محل 42 نظامًا تقاعديًا خاصًا معمولاً بها حاليًا.
ومن كان في زيارة لفرنسا في تلك الفترة، فلعله كان قد عاش مرارة الشلل شبه الكلي الذي أصاب حركة النقل بسبب تواصل الإضرابات... ومما يثير العجب والغرابة أن المظاهرات في تلك الفترة تمت رغم أن هذا النظام الشامل لم ينشر ولم تعرف حيثياته ولا ما في التعديلات من آثار إيجابية أو سلبية على المواطنين!!! وعندما تكون هاته المظاهرات عامة فإن حركة المواصلات تتوقف ويصعب التنقل من مدينة إلى أخرى، ويبقى الأجانب في الفنادق والمطارات في حيرة من أمرهم؛ وتغلق الجامعات والمؤسسات التعليمية؛ ولا مناص من التوفر على دم بارد والتوفر على ميزانية مالية إضافية للأجانب حتى يتمكنوا من تغيير أوراق الطائرة...
بالنسبة للرئيس الفرنسي الشاب إيمانويل ماكرون الذي جعل من «تغيير المياه الراكدة» في فرنسا هدفًا لعهده، فإنه اعتاد على مثل هاته المظاهرات لأنها تشكل عادة فرنسية؛ ولكن مع ذلك فإنها تبدو خطيرة على المستقبل السياسي لحزبه؛ فالحكومة تجازف اليوم مع فرض الشهادة الصحية والتطعيم الإلزامي في سياق اجتماعي متوتر أصلاً، مع تحركات محتجي «السترات الصفراء» للسنين الأخيرة وغير المسبوقة والاستياء العام في المستشفيات وفي صفوف الطلاب وعمال سكك الحديد والشرطة والأساتذة والمزارعين ... وهذا النوع من الاحتجاجات يحمل إلى الشوارع حصته من التوترات والصعوبات خصوصًا لدى الطبقة المتوسطة.
منذ أكثر من أربع سنوات فاز السيد ماكرون الجالس الآن على عرش الإليزي بالانتخابات الرئاسية، ولم يصل لا اليمين ولا اليسار إلى الحكم لأن الشعب الفرنسي لم يعد يثق فيهم ولا في أفكارهم ولا في إيديولوجيتهم، وأحدث زلزال في تاريخ الجمهورية الخامسة وفي مصير الدولة الوطنية... ثم المهم من هذا المثال، هو أن مسألة الثقة هي من المحددات التي تطبع مسار تكوين الدولة والمؤسسات.... ولئن كانت المجتمعات السياسية مختلفة من قطر إلى آخر، فإن مدى تماسكها وقوتها على رد الرياح العاتية والمياه الأجاج الجارفة، يكمن أولاً وقبل كل شيء في الثقة، ويقيني أن انعدام هاته الثقة أضحت هي القاعدة العامة، وهو ما سيؤثر على الجسم السياسي الفرنسي بأكمله.