من أعماق الحزن والفجيعة والحدث الجلل الذي رؤزت به ذرفت العيون دموعها مدراراً ونزفت القلوب المها حسرة وكمداً وشعرت أني غريق وبين ضلوعي حريق وأنا أتلقى نبأ وفاة العم العزيز بل الوالد الغالي هلال بن زيد العمراني الحارثي الذي غادر دنيانا بمدينة الطائف صباح يوم الأحد 22/12/1442هـ وكانت تلك الساعة التي استيقظ عليها النهار في ذلك اليوم من حياتي.
مات شيخ البلاد يا للرزايا
غيبت في الثرى الحكيم الجوادا
غيبت في الثرى النهى والمعالي
ونقاء الضمير بل والسدادا
غيبت والداً حنوناً وابقت
في عظيم من الاسى الأولادا
إنه والد الجميع وكنا
في حماه الأبناء والأحفادا
وبعد أن أخذت أهدهد أوجاع نفسي وانكسارها والوك أفكاري لم أجد أقرب إلي من قلمي لعلي أجد به بعضاً من سلوتي وعزائي وما يختلج في خاطري من مشاعر وأحاسيس نحو هذا الفقد الأليم وما أن أمسكت به حتى استعصى علي وأبى أن ينصاع لأمري ومن حر ما بي ألقيته جانباً وأخذت أنظر إليه معاتباً وقلت له حتى أنت أيها القلم يا رفيق العمر وسمير الروح وترجمان الفكر لماذا كنت علي اليوم جباراً عصياً وخادماً شقياً؟ وتريد أن تؤجج أنت أيضاً من آلامي وتزيد من معاناتي بعدما طرق سمعي هذا الخبر المفجع.. فقال لي: ألا تعلم أنك بقولك هذا قد جسدت الحقيقة فإنه إذا استعصى على القلم الكتابة فقد أصابته الكآبة وإذا سمعت له صريراً فأيقن بأنه يأن ألماً وينضح جرحاً بليغاً فقل لي يا صاحبي ماذا أصابك..؟ وماذا جرى لك حتى يعود الود بيننا وأكون طوع بنانك وترجمان أفكارك..؟
قلت: هو ذاك فعلاً ما ذكرته وإلا لوجهت لك الاتهام بالخيانة ونقض العهد والأمانة ولكنها ساعة فراق الأحبة والأعزاء عندما نودعهم الوداع الأخير في انتقالهم من دار الفناء إلى دار البقاء وبعد أن كانوا بيننا ملء السمع والبصر يعطرون المكان والزمان ويبهجون حياتنا ويمطروننا من مخزون حكمتهم وتجاربهم في الحياة فلا يجد المرء نفسه إزاء هذا الفقد والخسارة إلا أسيراً للحزن والأسى ورهيناً لضجيج الأنفاس وشهقات القلب الموجع حرقة وألماً.
فقال لي القلم: إنني أتساءل وفي كل موقف من هذه المواقف المتكررة في حياة الناس ترى هل سينجو أحد من الموت ويبقى مخلداً وهو الذي عرفناه بسارق أيام العمر وهادم اللذات ومفرق الجماعات وواضع النهايات..؟ وإذا كنا موقنين فعلاً بالإجابة فهل أخذ الأحياء من الباقين العضة والعبرة من كل أولئك الراحلين السابقين من ذوي الصلة والقربى والأحباب والأصحاب والزملاء والرفاق وسائر من في المعمورة واستعدوا تمام الاستعداد لهذه المرحلة..؟ وتركوا عند رحيلهم الذكرى الطيبة والسيرة الحسنة والمواقف المشرفة التي تجعل الأحياء يذكرونهم على الدوام ويدعون لهم بالرحمة والمغفرة وصالح الأعمال والقربات.
هذا هو العمر انهاراً مشعشعة
تجري بنا دون ان ندري زغاربها
قلت: لا شك في ذلك وسيفوز به كل من له قلب سليم من شوائب الدنيا وادرانها وزخرفها وأدرك حقيقة هذه الحياة ووضعها نصب عينيه وأيقن تمام اليقين أنه لا منجى ولا ملجأ من الله إلا إليه فيحسن العمل ولا يغتر أبداً بكمال الصحة وطول العمر ونعيم العيش والأمل.
الموت في كل حين ينشر الكفنا
ونحن في غفلة عما يداوينا
لا تطمئن إلى الدنيا وبهجتها
وإن توشحت من أثوابها الحسنا
أين الاحبة والجيران ما فعلوا
أين الذين هموا كانوا لنا سكنا
فانتفض القلم مرة أخرى وقال: ولكن هل لي أن أعرف من يكون هذا الفقيد الذي أوصلك إلى هذه الحال؟ ما أبرز صفاته وما مكانته في مجتمعه وعند الناس؟ وماذا قدم من أعمال في حياته حتى أحبه الناس وقربوه منهم..؟
الرأي فيك مدى الزمان جميل
ومقام فضلك في الانام جليل
كل يشير اليك في مندوحة
ممدوحة والمدح فيك أصيل
كل يراك بعين تقدير له
بين القلوب مهابة وحلول
قلت: كما أشارت هذه الأبيات الشعرية إلى بعض صفاته ومناقبه فهو عمي العزيز الرجل العصامي المكافح الذي بنى نفسه بعرقه وكده وكدحه، صاحب السيرة العطرة والمسيرة الوظيفية المشرفة في خدمة الوطن والمواطن التي امتدت (42) عاماً في المجال الصحي بالطائف، رجل التقى والدين والجود والمكارم وصاحب المغانم والعلاقات الإنسانية الممتدة بكل شبر من أرض البلاد، صاحب الرأي والمشورة، ورجل إصلاح ذات البين، الذي أعطى بجزل وأجزل ببذل فكان كنخلة وافة الظلال على القريب والبعيد، صاحب الأخلاق النبيلة والكلمة الصادقة والروح المرحة والابتسامة المشرقة، الحريص على إدخال السرور والبهجة في نفوس الآخرين بما ينثره عندما يلقاهم من حسن الكلام وجميل الملاطفات فكان بهجة المجالس وأنيس المسامرات، ولذلك فقد أجمع على حبه الرجال وأعلوا من مكانته وقدروا منه الأفعال، فسكن قلوبهم وسويدا عيونهم واحتل في نفوسهم قدراً رفيعاً وليس غريباً أن عدوه علماً بارزاً من أعلامهم وجبلاً شامخاً من جبال ميسان الشاهقة، وله ولمثله من الراحلين يسكب الدمع ويترقرق، والقلب على فراقهم يئن ويتمزق.
لست أدري وقد عراني شهيق
حيث ضمت جثمانه الحدباء
بيد اني رأيتهم حملوه
يسأل البعض بعضهم ما العزاء؟
كنت بالأمس حولنا تتغنى
أين ذاك الأمس أين الغناء؟
قال القلم: ولكن قل لي يا صاحبي واعذرني إن أكثرت عليك أسئلتي فهل يكفي البكاء ووابل العبرات والأنات ولظى الحسرات فقط في وداع عمك العزيز ووداع كل غال عليكم في هذه الحياة..؟
قلت: هو الموت نهاية كل حي ولكن وكما ذكرت آنفاً أنها لحظات الفراق والوداع الصعبة التي لا يتحملها إلا القليل من الرجال لأننا تعودنا على حضورهم المدهش في حياتنا ولم نتعود على غيابهم المفاجئ والأبدي وأمثال هؤلاء الراحلين حقيقة لا يموتون وإن فارقونا أجساداً كما قال أفلاطون (الجسد مقبرة مؤقتة للروح) فهم أحياء بيننا بآثارهم الباقية وأعمالهم الخيرة ومناقبهم الحسنة وذكراهم الطيبة ومواقفهم المشرفة، وأنني أذكر هنا ومن باب الذكرى أولاده وأحفاده وكل من أحبه ونحن نقف على نعش الفراق ولوعة الغياب بأن نكون الأوفياء له حقاً ونجود له دوماً بالدعاء لأنها إحدى الصلات والأعمال الباقية للعبد في عقبه وأصدقائه إلى يوم العرض والنشور.
قال القلم: الآن علمت ما حل بك وقد حق لك كل هذا الحزن الذي ارتسم على محياك وسكن روحك ففقد الرجال المؤثرين في حياة الناس من أكبر المصائب على النفس ويظل أثرها ممتداً مدى العمر ولا يمكن نسيانهم بسهولة فاقبل مني أيها الصديق أحر وأصدق مواساتي وعزائي وانقله عني لأبنائه الكرام محمد وعبدالله وخالد وفهد وفادي وحاتم وأخواتهم وأمهاتهم الكريمات ولأسرته من ذوي البرقاء ولقبيلته العمارين وأخواله من ذوي خطفة من الشعاعيب ولقبائل بني الحارث عموماً، راجياً أن يتقبله الله بقبول حسن وينزله أعلى عليين ومصاحبة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
ويح قلبي كم زفرة تتوالى
أحرقتني من وجدك الصعداء
نم قرير العين نوم عروس
في مقر يحفك الشهداء
وعليك السلام في كل فجر
من فؤاد قد نال منه العياء
قلت: الآن شعرت بأنك أيها القلم لم تخن وأنك خادمي المطيع الذي لم يخذلني قط وإنك فعلاً أنيسي وسلوتي وبهجتي ولا أقول في وداع فقيدنا الغالي وهو يرقد بسلام في مضجعه الأخير أنه مهما كبر يا عماه وجع سنواتك وأيامك الأخيرة صحياً ونفسياً فهي هبة ورحمة من الرحيم الرحمن، ونسأل الله لك الرحمة والغفران ولنا الصبر والسلوان وانقشاع غيمة الأحزان وإنا {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ }.
** **
- مشعل عيضه الحارثي