د.عبدالله بن موسى الطاير
الشرق الأوسط على طاولة المخطط الأمريكي والغربي منطقة محكومة بالتنافس الطائفي، والذاكرة الغربية لا تفرِّق بين الحروب الطائفية التي نشبت بين البروتستانت والكاثوليك في أوروبا وبين المشهد في الشرق الأوسط، فهي ترى أن الأسباب متشابهة وسوف تقود إلى نتائج متماثلة، والمسألة مسألة وقت. وبناء على هذا التصور تضع إيران التي تمثل الأقلية المظلومة في مقابل السعودية التي تمثل الأغلبية المهيمنة، وتوزع الأتباع على القوتين الكبريين. فتلحق الشيعة والزيدية والعلويين في العراق وسوريا ولبنان واليمن ودول الخليج بإيران على اعتبار أنهم قواعد دعم لها في حربها الطائفية، وتجعل المملكة ودول الخليج ومصر والأردن في الطرف المقابل من الجبهة.
وللتذكير بما جرى في أوروبا من حروب بين الكاثوليك والبروتستانت يمكن استذكار حرب الثلاثين عامًا التي بدأت في القرن السابع عشر وحصدت أرواح نحو 8 ملايين نسمة، وأهلكت الحرث والنسل وكانت سببًا مؤسسًا لما تعرف به أوروبا حاليًا من تعايش وتكامل وإقصاء للدين في الحياة السياسية والعامة.
لا يتعامل الأمريكيون والأوربيون مع منطقتنا على أنها حالة تستدعي إعمال أدوات تحليل وتشريح مبتكرة، وإنما على أساس أنها تكرار لحالة سابقة، وأن أفضل المقاربات للتعامل معها هو تكرار السيناريوهات الأوروبية في عصورها المظلمة، وفي ذلك مكاسب كبيرة منها استمرار الهيمنة للقوى النافذة حاليًا، وتواتر النمو الاقتصادي القائم على بيع السلاح للمتحاربين، وعلى سد عجز هذه المنطقة من العالم في إطعام نفسها وكسوتها وعلاجها.
المخطط الغربي اختار أسهل الطرق في تشخيصه للمشكل الشرق أوسطي، وسوف يقتصر دوره على المشاهدة والانتظار وتحريك بؤر التوتر بين الفينة والأخرى مع بذل أقصى ما يمكن للمحافظة على مصالحه ومصالح مواطنيه وحلفائه. لا يتعامل الأمريكيون بمشاعر متباينة مع الطرفين، فهم مثل الطبيب الذي يتعامل مع حالة مرضية فيعزل مشاعره الخاصة لمصلحة المريض. الدول العظمى لا تنظر للموضوعات المطروحة على طاولة بانتقائية، فإيران بالنسبة لهم قوة إقليمية والسعودية كذلك، والفارق الوحيد هو أن السعودية لا تشكل تهديدًا لمصالح تلك الدول بينما تفعل إيران ذلك للبعض. التعامل مع القوتين الإيرانية والسعودية فيما يخص مصالح الغرب تحديدًا تتم من خلال ممارسة أقوى الضغوط على السعودية لمواصلة حماية المصالح الأمريكية والغربية حتى ولو على حساب مصالحها الوطنية، ومن جانب آخر تفرض المزيد من العقوبات على إيران من أجل احترام المصالح الغربية. نقطة الصفر في المعادلة عندما تتمكن أمريكا وأوروبا من ترويض طهران، وفي تلك اللحظة سيكون التعامل مع المشهد من خلال مصالح الغرب فحسب، ولا مانع في أن تهلك الطوائف بعضها في ظل تنافس السعودية وإيران من وجهة نظر الغربيين.
تكرار الادعاء بأن دول الخليج تقف موحدة خلف السعودية في مواجهة إيران يعطي الغرب مبررًا «أخلاقيًا» للوصول إلى اتفاقيات مهمة مع إيران حتى تتمكن من مواجهة منافسها المحتزم بست دول خليجية غنية. بكل أسف الحال ليس كذلك؛ فكل دولة من دول الخليج تعتقد أنها بمنأى عن التهديد الإيراني ولذلك لن تكون يومًا ضمن الحزام الأمني السعودي، وإذا اضطرت للمجاملة فإنها تسارع إلى إيفاد المراسيل لتطمين طهران؛ هذا ليس سرًا وإنما ممارسة ملحوظة.
المراقب للسياسة السعودية الخارجية اليوم يدرك بوضوح أنها لم تعد تجامل أحدًا على حساب مصالحها، وأمن المنطقة، وأنها لم تعد تقود المشهد من خلف الكواليس وإنما في مقدمة الصفوف. هذا التغير جاء بعد تجريب سياسة غير قابلة للاستفزاز حكمت التحركات السعودية الخارجية عقودًا من الزمن، ولم تثمر الكثير في حرب اليمن عام 1962 عندما قصفت المدن السعودية الجنوبية بالطيران، ولا في حرب إعادة الشرعية لليمن، ولا في حرب تحرير الكويت، ولا في استهداف طهران لمصافي بقيق مؤخرًا. أسهم في الحاجة الملحة للتغير الذي طرأ على السياسة الخارجية السعودية تقهقر القوة العظمى الحاكمة التي بدأت تنكفئ على نفسها لتعود بأمريكا إلى ما قبل عام 1916م، وبتالي فلابد أن تملأ السعودية الفراغ فيما يخص إعادة ترتيب النزاعات في محيطها، وليس ذلك من باب التدخل في شؤون الآخرين، وإنما على اعتبار أن الأمن الوطني يمتد إلى حيث منشأ الخطر.
ربما تتمكن السعودية وإيران من إحباط تكرار المشهد الدموي الذي عاشته أوروبا، وتلتقي الدولتان لترتيبات تؤدي إلى إدارة خلافاتهما، وبذلك تتجنب المنطقة دمارًا آت لا محالة. المعوق الذي يعترض سبيل أمنية كهذه يتمثل في أن طبيعة ولاية الفقيه لا يمكن الوثوق بها، ولكن تقتضي المصلحة أن تمارس المملكة دورها القيادي وتوسيع دائرة الحوار السياسي مع مواصلة لجم النفوذ الإيراني في دول الجوار.