مكة المكرمة - خاص بـ«الجزيرة»:
تعد الأسرة النواة الأولى لعملية التنشئة الاجتماعية، بل من أهم المؤسسات التربوية التي يعهد إليها المجتمع الحفاظ على هويته وضبط سلوكيات أفراده، كما أن الأسرة مسؤولة عن تنمية العلاقات الإنسانية، حيث إن نمط العلاقات القائم داخل هذه الأسرة هو الذي يحدد طبيعة القيم التي سيتشبع بها الفرد.
«الجزيرة» التقت عدداً من التربويات ليتحدثن عن السبل الكفيلة لتعزيز تنمية العلاقات الإنسانية، وبالذات في ضوء المتغيِّرات الحديثة والمتسارعة التي يشهدها المجتمع، فماذا قلن؟
القيم المكتسبة
ترى الدكتورة أمل بنت محمد بنونه، أستاذ الطفولة المبكرة المساعد بكلية التربية بجامعة أم القرى، أن للأسرة دوراً كبيراً في تنشئة أبنائها وتشكيل شخصياتهم منذ الطفولة المبكرة، ومن خلال هذه التنشئة يكتسب الأبناء بعض القيم الأخلاقية والإنسانية المتبادلة بينهم والمنبثقة من قيم الدين الإسلامي مثل: الرحمة، العطف، الاحترام، التقدير، العدل، المساواة والتعاون والتي لها دور كبير في التعامل السامي مع الآخرين، وتشمل العلاقات الإنسانية علاقة الفرد بربه، وبنفسه، وبأسرته، ومجتمعه، وكثير من التعاملات الإنسانية تبنى على القيم المكتسبة منذ الطفولة داخل الأسرة والتي تظهر في الممارسات الوالدية سواء مع بعضهم البعض أو مع الأبناء والآخرين خارج محيط المنزل، فعندما تتخذ الأسرة مبدأ التعامل باحترام الكبار والعطف على الصغار يسود في البيت المودة والرحمة والاستقرار النفسي الذي ينعكس بالإيجاب على أفرادها من الناحية النفسية، والاجتماعية، والعاطفية، والفكرية تسهل عليهم تكوين علاقات إنسانية صحية خارج الأسرة تحثهم على فعل الخير وتعينهم عليه. في ظل المتغيِّرات الحديثة والمتسارعة انشغل الوالدين عن تربية أبنائهم بهدف تلبية احتياجاتهم الأساسية وعلى الرغم من ذلك حافظت كثير من الأسر في مجتمعنا السعودي على الاجتماع العائلي اليومي لشرب القهوة مثلاً وتبادل الأحاديث المتنوعة بهدف تقوية الأواصر الأسرية، وهنا يتعلم الأبناء أجمل دروس حسن الخلق وفن التواصل وأدب الحوار المتبادل مع الآخرين والتي يعتبرها علماء الاجتماع والاقتصاد من المبادئ الأساسية للتقييم نجاح أي منظمة عملية، حيث إن تعزيز الأسرة لقيم العلاقات الإنسانية داخل الأسرة له دور كبير في تنظيم العلاقات الإدارية والعلاقات الاجتماعية والتي بدورها تساهم في ازدهار المجتمعات.
رحلة التأثير والتأثر
وتقول الأستاذة شوقية بنت محمد الأنصاري الخبيرة التربوية بمنطقة مكة المكرمة، إن البيئة الأسرية التي تتشكَّل فيها شخصية الفرد وترتسم فيها ملامحه الأساسية، هي من أهم وسائل التعلّم الاجتماعي الذي يحتاجه الشخص ليتفاعل بلغة إنسانية مع مجتمعه ومحيطه، بحيث يكتسب منها الخبرات والمهارات وجودة العلاقات داخل الأسرة وينطلق ليمارس مهاراته الاجتماعية، ليكون صالحاً فعَّالاً في إدامتها على أساس الصلاح والخير والبناء الفعال، ومن هنا تتشكَّل الثقافة الإنسانية بالحوار الفعَّال ويتحقق الأمن الوقائي وتمتد جسور الألفة، وتبقى الوقاية والوعي الأسري مفتاح النجاة للأفراد ونشأتهم النشأة السوية الصالحة بعيدا عن الانحراف الخلقي والسلوكي وتكامل حضور رحلة التأثير والتأثر بلغة اتصال ملهمة ينبثق منها إبداع الأفراد وتتوسع دائرتهم الاجتماعية، فمن لحمة الأسرة تتنظم وحدة الوطن، ولهذا الجوهر الإنساني الذي ترتكز عليه الأسرة صغت لها طيب القول والبيان: الأسرة هي تلك الشجرة الطيبة جاء غراسها ببركة من الله وتوفيق، لترتوي على يد زوجين مباركين، وتمتد في الأرض جذورها، وتحيا في نموها بطيب الكلم، وتمتد فروعها برعاية كريمة ولمسة حانية ليبدو منها الخير والخبر، وإذا بطلع منها باسق نضر، ليثمر بأفراد نشأوا تحت ظلها العامر الخضر، وتشتد على الخير سواعدهم ويتبادلون الأدوار بجميل القول والفعل ويحصدون أينع الثمر، فيمتد ظلها بباقي الحي ويجني منها المجتمع طيب الأثر، والعظيم من امتدت شجرته لتتصاعد عطاءً ونوراً ويشهد بذلك رب البشر.
تعزيز الروابط الأسرية
وتبيِّن الأستاذة ليلى بنت مسند الصيفي مستشار التميز التعليمي وأخصائية سعادة أن رؤية 2030 تؤكد في محور مجتمع حيوي: بنيانه متين على أنّ الأسرة هي الحامي للمجتمع من التفكك، وتتبنى الرؤية توجّه يهتم بتعزيز الروابط الأسرية، ذلك لم يكن لولا دور الأسرة في تشكيل نوعية العلاقات والروابط التي يمكن أن ينشأ عليها الأبناء، وتصبح جزءاً من شخصياتهم ومحدداً لنوعية الهوية الاجتماعية التي يحملونها، وهذا بدوره سينعكس على نوعية العلاقات في المجتمع.
وعلينا أن نعي أنّ الهوية الاجتماعية للأبناء تبدأ من وجود أسرة قوية قادرة على تحقيق تواصل جيد مع أبنائها في المواقف الجيدة والسيئة، وتعزيز قدرتهم على التعامل المتزن في جميع المواقف، فدور الأسرة تنمية المهارات الاجتماعية لدى الأبناء والتي تحسّن من هويتهم الاجتماعية، فمثلاً عند حدوث نزاع بين الإخوة؛ يتم تعليمهم مهارات التفاوض والتسوية وحصول كل واحد منهم على جزء مما يريد، أو تعليمهم كيفية التواصل الإيجابي والاستماع الجيد دون إصدار إحكام والتعبير عن المشاعر بصراحة واحترام، مع التأكيد على أنّ تعليم المهارة يتبعه دعم وتوجيه من الوالدين، بالطبع سيكون لذلك أثر على العلاقات التي يكونونها خارج إطار الأسرة.
وهذا لن يتأتّى دون أن يكون هناك توافق في معتقدات وقيم وأخلاق الوالدين في هذا الجانب، وأن يكونوا قدوة لأبنائهم في تعاملاتهم مع الآخرين.