د. فهد بن أحمد النغيمش
كلماتٌ.. ولكنَّهنَّ ليسَ كباقي الكلماتِ.. لأنَّهنَّ قاتلاتٌ.. تُسرعُ كالرِّيحِ، وتشتعلُ كالنَّارِ.. كم هدمتْ من صداقةٍ ودارٍ.. وكم فَرَّقتْ من قريبٍ وجارٍ.. بسببِها يُتَّهمُ البريءُ.. ويُكذَّبُ الصَّادقُ.. ويُخوَّنُ الأمينُ.. ويخافُ المجتمعُ بعدَ الاستقرارِ.. وترتفعُ بعد انخفاضِها الأسعارُ.. وتُهزمُ بها الجيوشُ.. وتَسقطُ منها الدُّولُ.. وكم نَدِمَ الكثيرُ على تصديقِها ولكن بعدَ ما قُضيَ الأمرُ وفاتَ.. إنَّها الإشاعاتُ وما أدراكَ ما الإشاعاتُ؟
الإشاعاتُ كلماتٌ.. والكلماتُ قد ترفعُ الإنسانَ إلى أعلى المقاماتِ.. وقد تهوي به في أسافلِ الدَّركاتِ..
بالإشاعاتِ طُعنَ في عِرضِ خيرِ البشرِ.. في أحبِّ نسائه إليه عائشةَ رضيَ اللهُ عنها.. شهراً كاملاً والنَّاسُ يخوضونَ في قولِ أهلِ الإفكِ.. وصاحبةُ الشَّأنِ غافلةٌ لا تشعرُ بشيءٍ.. لم يختلفْ عليها إلا معاملةُ رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ لها، بلْ أَوشكَ رسولُ اللهِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ على طلاقِ حبيبتِه، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ}.
سجَّلَها لنا التَّاريخُ في السُّنَّةِ، قصةَ نبيٍّ يُبتلى.. وسطَّرَ لنا القرآنُ في المصاحفِ، آياتٍ في البراءةِ تٌتلى، {وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ}.
الإشاعةُ قد تُغيِّرَ مجرى المعاركِ من النَّصرِ إلى الانهزامِ.. وما ظنُّكم بجيشٍ قائدُه محمدٌ صلى اللهُ عليه وسلمَ وجنودُه الصَّحابةُ الكِرامُ، في غزوةِ أحدٍ سَرتْ إشاعةٌ كاذبةٌ أنَّ الرسولَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ قد قُتلَ، وذلك أن عبدَ اللهِ بنَ قمئةٍ قَتلَ مُصعبَ بنَ عميرٍ وكانَ من أشبهِ النَّاسِ بالرَّسولِ فَظنَّ أنه قدْ قتلَ الرَّسولَ، فنادى بأعلى صوتِه: لقد قَتلتُ محمدًا، فماذا كانَ أثرُ هذه الإشاعةِ على الجيشِ؟، أدَّتْ هذه الإشاعةُ لانهيارٍ في معنوياتِ المسلمينَ وعمَّتْ الفوضى في صفِّ الجيشِ، ونزلَ الخبرُ عليهم كالصَّاعقةِ حتى أنَّ بعضَهم ألقى سيفَه وجلسَ في مكانِه من هَولِ المصيبةِ، وثَبتَ من ثَبتَ من الذينَ قالَ اللهُ فيهم: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا}، وكادَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ أن يُقتلَ حيثُ خَلُصَ إليه المشركونَ فكسروا أنفَه وسِنَّه، وشجّوا وجهَه الشَّريفَ حتى سالتْ منه الدِّماءُ، فجعلَ يمسحُ الدَّمَ عنه، ويقولُ: كيفَ يُفلحُ قومٌ شجُّوا نبيَّهم؟
وانظرْ كيفَ تعاملَ أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مع الحَدثِ، فقدْ انْتَهَى إِلى رِجَالٍ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَقَدْ أَلْقَوْا بِأَيْدِيهِمْ، فَقَالَ: مَا يُجْلِسُكُمْ؟، قَالُوا: قُتِلَ رَسُولُ اللَّهِ؛ قَالَ: فَمَاذَا تَصْنَعُونَ بِالْحَيَاةِ بَعْدَهُ؟، قُومُوا فَمُوتُوا عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ اسْتَقْبَلَ الْقَوْمَ، فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، ولم يلتفتْ إلى الشَّائعاتِ التي تُضعفُ الإرادةَ..
فالكلماتُ لها أثرٌ غريبٌ جبَّارٌ.. بُها تُبنى المُجتمعاتُ وتَنهارُ.. وبها تتغيَّرُ المفاهيمُ والأفكارُ.. كما قالَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: (إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْراً).. بالكلماتِ يُصبحُ القبيحُ حَسَناً.. ويُصبحُ الكَذبُ صِدقاً..
فيا للهِ كم من كلمةٍ طُعنَ بها في الإسلامِ وأهله.. وكُذِّبَ بها نبيٌّ.. وشُوِّهَ بها حَسَنٌ.. واتُّهمَ فيها بريءٌ.. وقُطعتْ بها أرحامٌ.. وهُزمَ بها جيشٌ.. وأُخيفَ بها آمنونَ.. وكُدِّرَ بها عَيشٌ.. وأُزيلتْ بها نِعَمٌ.. وأُسقطتْ بها دولٌ.. وأريقتْ بها دماءٌ.. ودمُّ عثمانَ بنِ عفانٍ رضيَ اللهُ عنه الخليفةِ الرَّاشدِ ذي النُّورينِ على ذلك شهيدٌ.
إذا كانَ الأمرُ الصَّادقُ فيما يترتبُ عليه أمنُ النَّاسِ أو خوفُهم، لا ينبغي إذاعتَه حتى يُستشارُ فيه أهلُ الرأيِ والشأن والخبرةِ، ثُمَّ يُنظرُ في مصلحةِ كتمِه أو إفشائه، كما قالَ تعالى: {وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً}، فكيفَ بالخبرِ الكاذبِ أو الذي لا يُعرفُ هل هو صحيحٌ أم لا؟.
وإذا كنَّا قد أُمرنا بالتَّثبتِ في نقلِ خبرِ الفُسَّاقِ.. قالَ سبحانَه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}، فكيفَ بأخبارٍ مجهولةٍ المصدرِ؟ يتسابق البعض في نشر شائعتها من باب سبق إخباري وما علم المسكين أن كذبته هذه تبلغ الآفاق فيصدق فيها قول المصطفى صلى الله عليه وسلم في حديث الرؤيا عندما مر برجل يؤتى بأحد شقي وجهه فيشرشر شدقه إلى قفاه، ومنخره إلى قفاه، وعينه إلى قفاه، قَائلاً: (الَّذِى رَأَيْتَهُ يُشَقُّ شِدْقُهُ، فَكَذَّابٌ يَكْذِبُ بِالْكَذْبَةِ، تُحْمَلُ عَنْهُ حَتَّى تَبْلُغَ الآفَاقَ، فَيُصْنَعُ بِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ). فليكن المرء على حذر من الكلماتِ التي تُدارُ في المجالسِ وتُرسلُ في وسائلِ التَّواصلِ، فليس كل ما يُعلم يقال ولا كل ما يصلك من رسائل واتس وغيرها يعاد إرساله فهناك افتراءات وهناك إشاعات ليس همٌّ أصحابها سوى شق عصا الطاعة وبث روح الفرقة بين عباد الله، ولنحافظ على أمنِ بلادنا ومجتمعاتنا من كلِّ ناعق بسوء وناقل له ولنحفظ ألسنتنا من الشائعات والخوض فيها دون تثبت وتبين، حفظ الله بلادنا ومجتمعاتنا وولاتنا من كل سوء ومكروه وجنبنا الفحش في القول والخطيئة في النقل.