إعداد - صبار عابر العنزي:
هو ضابط مخابرات بريطاني محتال ومخادع قام بمخالفة مبادئ النظام الاجتماعي، وعطل الحياة الطبيعية في محاولة لإعادة تأسيسها على أساس جديد بعد أن تقمص الشكل والقالب العربي وإجادة بقوة لذا كان له دور بارز في مساعدة الجيش العربي إبان الثورة العربية ضد الاحتلال التركي عام 1916م بما قدمه من دعم لوجستي وتقنى للجيوش العربية كما كان همزة الوصل بين القوات البريطانية والقوات العربية التي ساندتها ضد القوات التركية.
الجميع بأنه محب للعرب والتنقل في صحاريها وفيافيها فقطع آلاف الأميال على قدميه مشياً، بيديه الخرائط وهو في الواقع يكتشف أغوار وأسرار البلاد العربية بالشام وفي شبه الجزيرة حيث زار مصر والسودان في إطار مخططه لاستيعاب جغرافيا الوطن العربي.
وقد صُور عن حياته فيلم شهير حمل اسم لورنس العرب عام 1962م وقال عنه رئيس الوزراء البريطاني الأسبق ونستون تشرشل: «لن يظهر له مثيل مهما كانت الحاجة ماسّه له».
نشأة لورنس العرب
ولد توماس إدوارد لورنس في 16 أغسطس عام 1888م لأم من اسكتلندا وأب من إنجلترا انفصل والده عن زوجته الارستقراطية المتسلطة الليدي تشابمان بعد أن وقع في حب خادمته سارة «والدة توماس لورنس» فعاش لورنس طفولة تتسم بالرفاهية والنعومة، ألحقه والده بمدرسة أكسفورد الثانوية ثم التحق بجامعة أوكسفورد فكان لا يحب الرياضة المنظمة فيقول في مذكراته «لم أكن اهتم بالألعاب المنظمة لأنها منظمة ولأن لها قواعد وأحكاماً ونتائج فأنا بطبعي لا أنافس أحداً من الناس في أي شيء على وجه الإطلاق».
التحق بجامعة اكسفورد عام 1908 ووطّد علاقته بأساتذته المشهورين وأُعجب بشخصية نابليون بونابرت الذي كان معروفاً بقصر قامته مثله، اهتم بدراسة الهندسة والاستراتيجية العسكرية وبحث في التاريخ العسكري.
أولى رحلاته إلى الشرق العربي
سافر لورنس بحراً متجهاً إلى الشرق في 18 يونيو 1909م ورست السفينة على شواطئ بيروت لتبدأ رحلته الاستكشافية، اعتمد في تنقّلاته على التحرك على قدميه لمسافات أميالاً طويلة، وصلت سفرياته على الأقدام إلى 13 ساعة في بعضها مما أثار إعجاب المحيطين به من أهل المناطق ورغم أنه كان يصطحب معه مرشداً سياحياً لحمايته وإرشاده إلا أن ذلك لم يمنعه من مواجهة مخاطر كادت أن تودي بحياته إما من الحيوانات المفترسة أو من السرقة والسطو.
توجه في زيارته إلى صيدا والنبطية ثم إلى قلعة بيوفورت وواصل رحلته حتى وصل إلى وادي الأردن ثم البحر الميت، وكان يقضي نهاره مسافراً وبالليل يطرق أبواب أهل المناطق الذين يعتبرونه غريباً واجباً إكرامه وضيافته، وصل طرابلس واستقر في المدرسة التبشيرية الأمريكية, وقد أُعجب بعمل هذه المدرسة، ثم عاد إلى قلعة الحصن في سوريا وقضى فيها ثلاثة أيام يتفحصها بدقة فكانت رحلته بها الكثير من العناء والمخاطر مما أصابه بالإحباط وضعف إمكاناته فقرر العودة إلى بلاده لضرورة التقدم بأوراق دراسته ومهمته لاعتماده طالباً مجتهداً.
انضمامه للمخابرات البريطانية
قامت الحرب العالمية الأولى وأعلنت الدولة العثمانية الحرب على إنجلترا وسعت إنجلترا للاستفادة من إمكاناتها في المنطقة لتحقيق النصر فقام السير «جليبرت كلايتون» باستدعاء لورنس بعد أن ذاع صيته كعالم آثار إلى مكتبه بمقر القيادة العليا للجيوش البريطانية في القاهرة.
أمر كلايتون بتعيينه في قسم الخرائط وكانت هذه هي الفرصة الوحيدة للتأكد من صحة الخرائط بالواقع وظهرت عبقرية لورنس في هذا المجال كما امتدت آراؤه للخطط العسكرية في هذا الشأن فقام كلايتون بنقله إلى قسم المخابرات السرية المسمى بالمكتب العربي في القاهرة.
وكان لورنس يحفظ المواقع التركية عن ظهر قلب مما ساعد الإنجليز كثيرا واستغل لورنس علاقاته بالعرب لإيهامهم أنه يريد مساعدتهم لمواجهة النفوذ التركي وقد ساعدته معرفته باللغة العربية لإضافة مصداقية له في هذا الشأن.
رحلته إلى الجزيرة العربية
انتقل لورنس إلى الجزيرة العربية ليقف على حقيقة الثورة العربية المشتعلة ضد الأتراك بقيادة الشريف حسين, فتقابل مع الأمير عبد الله الابن الثاني للشريف حسين, باحثاً لورنس عن شخصية الزعيم والقائد للثورة التي يمكن أن تساندها إنجلترا.
فطلب من الأمير عبد الله أن يأذن له بالتجول في البلاد ليقف على حقيقة الوضع ويرفع به تقريراً للقيادة العامة بالقاهرة، وبعد موافقة للشريف حسين على الهاتف، أرسل الأمير عبد الله خطابا لشقيقه الأمير علي ليرافق لورنس ويضمن سلامته، استخدم لورنس الزي العربي للتنقل في الجزيرة على أنه عربي من حلب.
لم يجد لورنس في الأمير عبدالله ولا الأمير علي تلك الشخصية القيادية التي يبحث عنها التقى بعد ذلك بالأمير فيصل النجل الثالث للشريف حسين، وقد وجد في شخصيته ما كان يبحث عنه فتباحث معه في وضع الثورة ونجاحاتها وإخفاقاتها وتبيّن له أن الهجوم الأول للثوار على المدينة المنورة قد فشل نتيجة استخدام الأتراك للأسلحة الحديثة وخصوصاً المدافع التي أثارت الرعب في نفوس العرب لجهلهم بها أو كيفية استخدامها.
قام لورنس بتفقد قوات الشريف المتمركزة في منطقة الخيف بوادي الصفراء وقد اختبر كفاءة هذه القوات حتى يستطيع إخبار القيادة العامة وكان شديد الإعجاب بالشعور الوطني لدى النفوس المتمثل بالقومية العربية والبعيدة كل البعد عن النزعات العقدية.
وأدرك أن الثورة التي يقودها الشريف حسين ثورة عربية قومية مما أطرب مشاعر لورنس وتمنى لو أن مصر تلحق بركب الثورة القومية بوصفها أكبر البلدان العربية والإسلامية وأن إيمانها بالقومية العربية سيدفع بالثورة إلى الأمام.
إقناع الإنجليز لمساندة الأمير فيصل
قرر لورنس العودة للقاهرة ولكنه في ميناء جدة تقابل مع سفينة الميرال «ويمس» المتجهة للسودان للقاء مستر «ريجالد وينت»، ولمعرفة لورنس باهتمام ريجالد بالثورة العربية فقد اتجه مع ويمس إلى الخرطوم حيث قابل ريجالد وأطلعه على نتائج زيارته للجزيرة العربية ثم اتجه إلى القاهرة.
في هذه الأثناء كان رئيس البعثة العسكرية الفرنسية في جدة «بريموند» يرى ضرورة تدخل القوات البريطانية مع الفرنسية مباشرة في الحجاز وهو ما عارضه لورنس بشدة حيث كان رأيه أن تدخل القوات الأجنبية مباشرة سيفقد الثورة تأثيرها ويثير الروح العقدية ويمنع كثيراً من مؤيدي الثورة لمحاربة الأتراك.
وقد أكّد لورنس للقيادة العامة أن القوات العربية تستطيع مجابهة الأتراك والصمود لفترات طويلة إذا تم تزويدهم بالأسلحة والخطط الفنية التي وعدهم بها لورنس، وقد اقتنعت القيادة البريطانية العامة برأي لورنس مما أشعل الضغينة بينه وبين بريموند.
عودته الثانية للجزيرة العربية
قررت القيادة البريطانية إعادة إرسال لورنس إلى الجزيرة العربية ليكون بجانب الأمير فيصل ويعمل كمستشاره الذي يتحمل مسؤولية اتخاذ القرارات وتوجيهاته، فعاد لورنس في 3 نوفمبر إلى ميناء ينبع ليجد الأمير فيصل وقد لحقت به هزيمة ساحقة وقاسية على أيدي القوات التركية أثناء محاولة الأمير فرض حصار على المدينة المنورة لكن سلاح الطيران التركي استطاع فك هذا الحصار.
رست السفن البريطانية المحملة بالأسلحة الحديثة لمساندة الأمير فيصل كما أراد لورنس، وعمل لورنس على تجاوز آثار الهزيمة وتدريب قوات الأمير بسرعة على استخدام الأسلحة الحديثة وفي هذه الأثناء حاولت القوات التركية استغلال الانتصار الساحق على قوات الأمير فاتجهوا لملاحقته في معسكره, وانطلقت صفارات الإنذار في ينبع تحذر من اقتراب القوات التركية على بعد ثلاثة أميال فاجتمع الأمير فيصل مع لورنس في خيمته وخرج منها ليعطي أوامره للجنود بوضع الاستعداد ورفع الأيدي على الأسلحة والسكون والهدوء التام.
وفجأة انقطعت الحياة تماماً في معسكر الأمير فيصل, هذا السكون أثار خوف القوات التركية التي اعتادت على تتبّع العرب عن طريق ضوضاء طبولهم وأناشيدهم الحماسية, فقرر قادة الأتراك إيثار السلامة والانسحاب, كان لهذا الانسحاب عظيم الأثر في نفوس قوات الأمير التي ظنت أن القوات التركية لا تُهزم.
دوره في إقناع شيوخ القبائل العربية للانضمام للثورة
في هذه الأثناء كانت قوات الشريف حسين تسيطر على مكة المكرمة والطائف وينبع ورابغ والوجه في حين أن القوات التركية تسيطر على المدينة المنورة، لذلك كان الوضع في الجزيرة العربية صعباً جداً بالنسبة للأتراك مما أثار شهية القوات البريطانية التي قررت زيادة دعمها للقوات العربية, من هنا بدأ لورنس خطة جديدة لاستقطاب شيوخ وزعماء القبائل والعشائر العربية وضمها في صفوف الثورة فذهب إلى زعماء القبائل بصفته مبعوث الأمير فيصل وتحت حراسته يتفاوض معهم حتى استطاع إقناعهم بوقف الحروب فيما بينهم والانضمام للثورة.
مهاجمة دمشق وطرد الأتراك
اتجه لورنس إلى مقر القائد العام اللنبي بالقدس واتفقا على ضرورة زيادة دعم الأمير فيصل باعتباره القائد القادم للثورة، مما دفع اللنبي إلى التعهد بتحمل كافة نفقاته وأرسل اليه مع لورنس مبلغ ثلاثمائة ألف جنيه وجمالاً محملة بالمؤن، في هذه الأثناء لمع نجم نوري السعيد كنائب وقائد في صفوف قوات الأمير فيصل وقد عيّنه فيصل بعد ذلك رئيساً للحكومة في العراق.
اتفق لورنس مع الأمير على تنفيذ الخطة المُعدّة مسبقاً بين لورنس واللنبي، تقوم على تنفيذ هجوم من بلدة أريحا في الخامس من مايو 1918 واحتلال مدينة السلط وبلدة معان وتدمير خط السكك الحديدة جنوب عمان, وقد أعدّ لورنس مع «نوري السعيد» القوات المتأهبة للحرب واحتلت القوات البريطانية مدينة السلط لكن الجيش التركي بقيادة القائد التركي «جمال باشا» استطاع استعادة مدينة عمان والسلط ثم كثرت الأقاويل عن قرب سقوط القدس المقر العام للنبي. ولكي يتأكد لورنس من هذا الوضع فقد تخفى في زي نساء البدو وتسلل إلى عمان ولاحظ الهرج في شوارع المدينة بعد أن عاث الأتراك فساداً في شوارع عمان لمحاكمة الخَوَنة والعملاء.
سقطت مدينة السلط مرة أخرى في يد الإنجليز ثم استعادها الأتراك ومن أجل ذلك التقى اللنبي مع لورنس حيث طلب الأخير بضرورة حسم الحرب بتدخل القوات الجوية بقيادة الجنرال «سالموند» وطلب لورنس من اللنبي إمداده بالهجانة، وقد أذعن اللنبي لهذه الطلبات. عاد لورنس مع فرقه الهجانة ووعود بتدخل القوات الجوية البريطانية لذا أصبح الطريق ممهداً إلى دمشق.
سقوط دمشق
بدأت المعارك وشهدت هذه الحرب الكثير من المذابح «من الطرفين» التي يندى لها الجبين والتي راح ضحيتها الكثير من الأطفال والنساء دون أدنى احترام للعهود والمواثيق وتعاليم الإسلام لأي من الطرفين, اتجه الزحف على كافة الأصعدة حتى وصل إلى دمشق, كانت مخاوف اللنبي من غضبة الجماهير السورية الرافضة لأي وجود إنجليزي والخلفية العقدية لمساندة الحكم التركي, فبحث لورنس مع الأمير فيصل كيفية إقناع السوريين بتأييد الإنجليز في مواجهة الأتراك, فكانت لجنة الأمير فيصل التي يترأسها «علي رضا» و»شكري باشا الأيوبي» في دمشق تستعد لإدارة شؤون المدينة حال انهيار الحكم التركي تفادياً لفراغ سياسي قد يؤدي إلى نتائج غير مرغوبة من الأمير فيصل.
دخل لورنس مع الشريف إلى دمشق مع ظهور أول الصباح وكان الشريف يتلهّف لدخول المدينة في المساء إلا أن لورنس حذّره من ذلك لخطورة الظلام وأقنعه بأن عليه دخول دمشق في وضح النهار, اتجه الشريف صوب سراي الحكومة وسط تأييد شعبي, علم لورنس أن الجنرال «شوفيل» قد وصل إلى جنوب دمشق فأسرع إليه يطلب منه أن يبقى يومين خارج المدينة لتهيئة الأوضاع ومنعاً لإثارة الجماهير.
وصول الأمير فيصل لدمشق
بعد استتباب الأمن وفي صباح اليوم التالي وصل الجنرال اللنبي إلى دمشق بمرافقة الجنرال كلايتون والجنرال كونواليس وقد أظهروا جميعاً امتنانهم للورنس، تبع ذلك وصول الأمير فيصل إلى دمشق وقد حرص لورنس على استقباله لدى وصوله على متن القطار.
هنا طلب لورنس من الجنرال اللنبي السماح له بالعودة إلى إنجلترا بعد انتهاء مهمته وتحقيق أهدافه، وأمام إصرار لورنس سمح له اللنبي بالعودة ونجحت الثورة وانتهت بعد تنصيب فيصل ملكاً على العراق والأمير عبد الله ملكاً على الأردن.
عودة لورنس إلى إنجلترا
عاد لورنس إلى إنجلترا عام 1920 م وبدأ في كتابة كتابه الشهير «أعمدة الحكمة السبعة» حتى أنهاه في عام 1925م والتحق لورنس بعد ذلك تحت اسم مستعار بسلاح الجو الملكي, والواقع أنه عانى كثيرا من الضغط العصبي جراء الحياة الصعبة التي عاشها وخصوصاً بعد أن أصبح مطلوباً من العرب المعارضين لثورة الشريف حسين وانكشاف أنه عميل للمخابرات البريطانية.
الموت المروع والجنازة المهيبة
قضى لورنس بقية حياته في كوخ في شمال «بوفينجتون» وفي عام 1935م توفي عن ستة وأربعين عاماً بعد سقوطه من دراجته النارية التي كان يقودها بسرعة كبيرة في محيط مدينة اكسفورد وهو عائد إلى البيت من مكتب البريد بحادث قيل إنه كان مفتعلاً.
دُفن في مقبرة موريتون بعد تشييعه في جنازة مهيبة حضرها شخصيات سياسية وعسكرية مهمة ورموز للمجتمع البريطاني الأرستقراطي وتمَّ تشييد تمثال نصفي له أمام كاتدرائية القديس بول في لندن.