د.محمد بن عبدالرحمن البشر
عند شروق شمس كل يوم، وعند غروبها، وعلى مداد الليل والنهار تنهال أدوات التواصل الاجتماعي، بصنوف المعلومات، وفروعها، وغثها، وسمينها، وزكيها ومنتنها، وخفيفها وثقليها، وظريفها وممجوجها، وعاليها ودانيها، وصحيحها وسقيمها، لا شيء يمنع جلها من الانتشار، لتصل في بضع ثوان إلى كل الديار، فتتلقفها الأعين والمسامع، وتصل إلى العقل ليختار.
ليس عليك أن تشترك في وسيلة من تلك الوسائل، وليس عليك أن تفتح كل المواقع، لكن لابد أن تصل بعض ما تحمله تلك الوسائل إلى البصائر والمسامع، ومنها إلى العقل ليختار منها ما يشتهي، وليس على حكم العقل ينزل ويتحكم، غير أنها أمواج تتتابع من كل حدب وصوب، والهوى ليس له حدود، والعاطفة حول التبرير والتنميق تحور وتدور، لهذا فقد يختار المرء أمراً بعاطفته وليس بعقله ويسرف في ذلك ويتوسع، وهكذا يبني صرحاً من القناعات التي قد تصبح ثوابت، وأساسها العاطفة وليس العقل، وقد يشمل ذلك الاقتصاد، أو النظرة للمجتمعات، أو السياسة، أو الفلسفة، أو الايمان، أو تلك المتعلقة بالجسد من غذاء وطب، أو بالنفس البشرية وسلوكها وعلاقاتها مع الآخرين.
لنأخذ الاقتصاد مثلاً، فإذا كان المرء غير مطلع بدرجة كافية على موضوع بعينه في دولة من دول العالم، فلا شك أن ما تقع عليه عينه من الوهلة الأولى سيكون أساساً للبناء عليه سواء سلباً أو إيجاباً، ونحن نعرف أن كل بلد في العالم لديه من المحللين والمراسلين الاقتصاديين من يوضح أو يعظم من واقع اقتصادي بعينه، وهناك من يحاول متعمداً التقليل من واقع حال جيد في بلد ما، وهكذا فقد تكون المعلومة الأولى ذات أثر لوضع أساس في العقل الباطن نحو النظرة المستقبلية، خذ مثلاً، الديون الأمريكية وإجمالي الإنتاج الوطني، والنسبة بينهما، فهناك من يأخذ ما سوف تصل إليه الديون، وما حذرت منه رئيسة البنك الاحتياطي وخشيتها أن تصل الديون إلى رقم يصعب معه تسديدها في وقتها، والمتوقع أن يصل إلى ثمانية وعشرين تريليوناً، وقد يأخذ أحد المحللين إجمالي الانتاج الوطني الحالي، أو في عام عشرين عشرين ويجعله مؤشراً لبلوغ الدين نسبة تفوق إجمالي الانتاج الوطني بمرة وثلث أو نحوها، بينما يتوقع آخر أن يرتفع الإنتاج الوطني إلى درجة يجعل النسبة بينه وبين الدين العام واحداً لواحد، وهكذا فيمكن للمحلل أن يضع في ذهن المتلقي ما يراه هو اجتهاداً، أو تعمداً لخدمة توجه بعينه، وهكذا، ومثل ذلك الترويج في الاستثمار في شركة جديدة يتم طرحها في إحدى الاسواق العالمية، حيث يتم تضخيم التوقعات الربحية لدرجة جاذبة، وقد تسبق توقعات المستثمرين حقيقة الوضع المالي للشركات، ولا أريد أن أضرب مثلاً بشركات عالمية بعينها، لا سيما في مجال التقنية.
والنظرية للمجتمعات في الغالب يقودها الحكم المسبق لما ترسخ عبر السنين من خلال الواقع أو الدعاية، أو بهما معاً، وهذا شائع، نجده حتى يومنا الحاضر، ولا يكاد مجتمع أن يخلو من النظرة المستقبلية والحكم المسبق، وجاءت وسائل التواصل الاجتماعي لتصب الماء على الزيت، وتدفع بذلك إلى مدى أبعد، سواء ما يتعلق بالفكر، أو القبيلة، أو اللون، فهناك من يحكم على أبناء جنسية معينة بحكم لا يمكن تعميمه، سواء إيجاباً أو سلباً، ومع كل أسف فإن التعليقات والمقاطع المنتقاة لغرض معين قد تصل إلى البسطاء من الناس، فتؤثر عليهم.
والتأثير السلبي لوسائل التواصل الاجتماعي لجرِّ بعض الشباب إلى التشدد والتزمت، والانزلاق نحو تبني أفكار دينية أبعد ما يكون عن الحق والصواب، سواء كان ذلك في الدين الاسلامي أو غيره من الأديان والمعتقدات، مما يجعل التباعد والتمايز بين المجتمع الواحد أو المجتمع بأسره أكثر، وهذا ما يؤثر على الاستقرار، ومن ثم تفكيك المجتمع، وقد يصل ذلك إلى حروب أبناء الشعب الواحد، من خلال جذب الشباب إلى سوق بيع الوهم.
في السياسة مع حساسيتها نجد أن وسائل التواصل الاجتماعي تزخر بصراعات مستمرة في الهواء الطلق، حتى أن بعضاً من الشباب الناشئ الذي ليس لديه من الدراية والخبرة والتجربة التي تعمل مانعاً وحاجزاً عن الافكار المضللة والمخزية، قد ينساق دون علم إلى الهالك، فيفقد شبابه وأمله في الحياة سبب مثل هذا التضليل، والمشكلة أن هذا المجال واسع وقوى لأن المال يلعب دوراً في توظيف العقول المتمكنة من توصيل المعلومة الخاطئة إلى عقول هذا النشء الرائع المتطلع إلى حياة كريمة، نحن في عالم من وسائل التواصل الاجتماعي الذي لا يمكن تلافيه، ولابد من التعايش معه، ووضع حصانة ذاتية من خلال التوجيه والتثقيف في المنزل أولاً، وإنارة الطريق للناشئة منذ البداية، وتوضيح الحقائق بطريقة ذكية وسهلة وواقعية دون مبالغة هنا أو هناك، فيكفي ما في وسائل التواصل الاجتماعي من مبالغات هنا وهناك تفوق الوصف والقبول.
ندعو الله تعالى أن يحمي أبناءنا وشبابنا من تغلغل الأفكار الهدامة، والمضللة، والساعية إلى التأثير السلبي، وأن يمنحه الحياة الكريمة في ظل ما تعيشه بلادنا من أمن وأمان تحت قيادتنا الرشيدة.