د. محمد عبدالله الخازم
اختيار الطالب لتخصصه ليس مجرد مرحلة دراسية بل تأسيس لمهنة مستقبلية يقضي بقية عمره في ممارستها، فإن لم يكن الخيار موفقاً ومواكباً لموهبته وشغفه وقدراته فإنه يصبح عبئا عليه طول العمر. في هذا السياق تأتي الأسئلة؛ ما هو العمر أو المرحلة التي يصل فيها الشاب أو الشابة حالة النضج لاختيار تخصص ومهنة العمر؟ ماهي المتطلبات المعرفية والعلمية والمهارية التي يجب إتقانها قبل التخصص في مجال ما؟ هل يعتبر طالب يافع عمره خمسة عشر عاماً، ولم يوفر له القسط الكافي من العلوم الأساسية اللغوية والأدبية والرياضية والعلمية، ناضجاً بشكل كاف ليقرر تخصصه ومهنته ومجال عمله وحياته المستقبلية؟
الغالبية لا يدركون في سن مبكرة ماذا يريدون في مستقبلهم ولم تنضج خبراتهم واهتماماتهم ومعارفهم ليحكموا بما هو مناسب لهم وما هو أفضل لهم، اختيارهم لمسارهم التخصصي والمهني في هذه السن قد يتأثر بضغوطات اجتماعية أو بظروف مؤقتة خادعة كتعثر في مادة دراسية في هذا السن المبكر. لذلك أجده مستغرباً هذا الحماس لتعدد المسارات في مرحلة التعليم العام، وأراه مؤلماً للشاب أن يكتشف مستقبلاً بأن اختياره للمسار لم يكن موفقاً، لكن لا طريق للعودة وإنما عليه قضاء عمره في حقل معرفي أو مهني لا يحبذه. بعضهم كان لديه ملاحظة - مثل د. غازي القصيبي- حول فكرة الأدبي والعلمي في الثانوية العامة ويتمنى لو كانت مساراً واحدا يتزود فيها الطالب من مختلف المعارف والعلوم، قبل أن يقرر مستقبله. ربما لم نصل إلى ذلك، لكن مزيد من تفتيت مرحلة الثانوية إلى مسارات أمر يحتاج التمعن.كم من متخصص في العلوم الإنسانية ود لو درس بعض العلوم الرياضية والطبيعية، والعكس كذلك كم من مهندس أو طبيب ود لو حصل على مزيد من العلوم الإنسانية قبل أن يتخصص في الهندسة أو الطب؟! كم من طبيب أو مهندس أو معلم اكتشف في دراسته العليا بأنه في مهنة لا تتوافق مع ميوله ورغباته؟
هناك أنظمة مثل دول مثل شمال أمريكا ترى بأن خريج المرحلة الثانوية لم يصل مرحلة النضج لاختيار تخصصه المهني، فيدرس مرحلة جامعية أولى أو جزءا من المرحلة الجامعية قبل أن يقرر تخصصه. الهدف العام للتعليم ليس مجرد تخريج عمالة أو فنيين دون معرفة عميقة شاملة. لقد حاولت الجامعات السعودية تبني هذه الفلسفة بشكل جزئي عبر فرض السنوات التحضيرية، ولكن حتى هذه يبدو أننا نقضي عليها بسبب قناعات معينة أو قصور وفشل في تطبيق بعضها. هذه فلسفة ظاهرة في تعليمنا، بدلاً من إصلاح النموذج الذي بين أيدينا، نقفز إلى اجتثاثه وتجريب نموذج جديد دون ضمانات واضحة بنجاحه. هكذا نقفز من نموذج لآخر، دون استقرار واستمرارية وأحياناً دون نقاش فكري وعلمي واسع النطاق مع كافة المعنيين.
حتماً، العالم يموج بنماذج تعليمية مختلفة لذا من السهل المجادلة بأن هذا النموذج أو ذاك له مثيل عالمي، لكن علينا قراءة واستيعاب النقد الموجه لتلك النماذج قبل تبنيها، والتأكد من مناسبة النموذج المختار لرؤيتنا وتصورنا لمستقبل التعليم ومخرجاته ومناسبته لبيئتنا وطبيعة طلابنا الثقافية والمعرفية وكفاءة تعليمنا وغيرها من المعطيات.